مُصْطَفَى مُحْسِن اللَّوَاتِي
كُنتُ كَثيرًا ما أَسْمَعُ مِن أَصْدِقَائِي أَنَّ شُعُورَ الجَدِّ مُخْتَلِفٌ تَمامًا عَنْ شُعُورِ الأَبِ، وَأَنَّ شُعُورَ الجَدِّ لَا يُضَاهِيهِ شَيءٌ إِطْلَاقًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَهُ إِلَّا مَنْ جَرَّبَهُ.
فِي الوَاقِعِ هَذَا حَالُ مُعْظَمِ المَشَاعِرِ الاجْتِمَاعِيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بِالعَاطِفَةِ وَبِأَشْخَاصٍ أَعِزَّاء.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَ المَحَبَّةَ إِذَا وَصَفَهَا شَخْصٌ إِلَّا حِينَ تُجَرِّبُهَا وَتَعِيشُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَ الفَقْدَ ـ أَعَادَنَا اللهُ مِنْهُ ـ إِلَّا حِينَ تُعَانِيَ مِنْهُ.
وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ العَقْلِيِّ البَحْتِ كُنتُ أَسْمَعُ هَذِهِ المَشَاعِرَ النَّبِيلَةَ مِن بَعْضِ أَصْدِقَائِي، وَأَتَفَهَّمُهَا تَمامًا، وَأُقَدِّرُهَا فِيهِمْ أَيْضًا، وَلَكِنْ مَا كُنتُ أَعِيهَا أَوْ أَشْعُرُ بِهَا.
أَعْرِفُ أَنِّي أَصْبَحْتُ *جَدًّا* فِي عُمْرٍ مُبَكِّرٍ جِدًّا جِدًّا، حِينَما رُزِقَ رَفِيقُ عُمُرٍ كَامِلٍ، أَخِي الحَبِيبُ بِالرَّضَاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بِحَفِيدَتِنَا الأُولَى، وَأَتَذَكَّرُ أَنِّي مَازَحْتُهُ بِطُرْفَةٍ سَخِيفَةٍ: “حَيْدَر تْرَاك وَرَّطْتَنِي وَكَبَّرْتَنِي كَثِير”.
وَتَوَالَت الحَفِيدَاتُ وَالأَحْفَادُ، نَسَبًا وَرَضَاعَةً وَصَدَاقَةً عَمِيقَةً، وَأَفْرَحُ مِن دَاخِلِي بِهِم وَبِهِنَّ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الشُّعُورَ الخَاصَّ مَا كَانَ لِيَعْتَرِينِي. رُبَّمَا أَحَدُ أَسْبَابِهِ أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ الأَحْفَادِ وَالحَفِيدَاتِ ظَلُّوا بَعِيدِينَ عَنِ العَيْنِ وَالحُضْنِ إِلَّا فِي مُنَاسَبَاتٍ مُحَدَّدَةٍ قَدْ تَأْتِي وَقَدْ لَا تَأْتِي.
وَلَكِن…
وَمَا أَجْمَلَهَا “وَلَكِن” هَذِهِ…
جَاءَت *كَوْثَر* ـ مَا شَاءَ اللهُ عَلَيْهَا ـ بِابْتِسَامَتِهَا السَّاحِرَةِ الجَاذِبَةِ، لِتُقَلِّبَ كُلَّ تَفْكِيرِي وَأَحَاسِيسِي تِجَاهَ مَا كُنتُ لَا أَفْهَمُهُ وَلَا أَعِيهِ.
وَشَوْقِي الكَبِيرُ وَالعَمِيقُ لَهَا حَقِيقِيٌّ وَصَادِقٌ، وَلَكِنَّهُ أَيْضًا شَوْقٌ لِمَا افْتَقَدْتُهُ مِنْ مَاضِي، وَلِمَا لَمْ أَسْتَطِعِ القِيَامَ بِهِ فِي سَالِفِ أَيَّامِي، وَلِمَا أَتَوَقَّعُ مِنْهَا أَنْ تُنْجِزَهُ وَتُحَقِّقَ بِهِ بَعْضَ طُمُوحِي.
ابْتِسَامَتُهَا لَا تُفَارِقُ خَيَالِي وَذَاكِرَتِي، لِأَنَّهَا ابْتِسَامَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، بَرِيئَةٌ، ابْتِسَامَةُ رَضِيعَةٍ لَا يَتَجَاوَزُ عُمْرُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
اِبْتِسَامَةٌ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ طَاهِرٍ، لَا يُجَامِلُ، وَلَا يُدَاهِنُ، وَلَا يُصَانِعُ، وَلَا يُضَارِعُ، وَلَا يُخَادِعُ، وَلَا يُنَافِقُ، وَلَا مَصْلَحَةَ لَهُ
رَأَيْتُ فِيهَا شَقَاوَةَ عُمْرِي، وَنَدَاوَةَ تَبَاكِيرِي، وَرَبِيعًا فَقَدْتُهُ مَعَ عَوَامِلِ التَّعْرِيَةِ، وَتَجَعُّدَاتِ الزَّمَنِ الَّتِي اعْتَرَتِ الجَسَدَ وَالرُّوحَ.
أُشَاهِدُ فِي نَظْرَتِهَا مُسْتَقْبَلَ جِيلٍ كَامِلٍ قَادِمٍ لِلْحَيَاةِ، يَبْحَثُ عَنْ مَوْطِئِ قَدَمٍ لِيُمَارِسَ مِشْرَطهُ تَغْيِيرًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الُأفْكَارِ والْمُعْتَقَدَاتِ، وكَثِيرٍ مِنَ العَادَاتِ وَالمُمَارَسَاتِ وَأسَالِيبَ الُعَيْشِ، وَوَسَائِلَ الْحَيَاةِ.
أَلْمَسُ فِي مُحَاوَلَاتِهَا المُسْتَمِيتَةِ لِلتَّقْلِيدِ وَلِلْحَدِيثِ صِرَاعَ طُفُولَةٍ تُصِرُّ أَنْ تُسَابِقَ مَرْحَلَتَهَا إِلَى عُمْرٍ جَدِيدٍ، وَتَأْمُلَ فِي وَاقِعٍ أَجْمَلَ، وَحَيَاةٍ كَرِيمَةٍ عَزِيزَةٍ.
فِي ابْتِسَامَتِهَا كُنتُ أَرَانِي وَأَنَا آخُذُ كُلَّ الأُمُورِ بِنُكْتَةٍ هُنَا، وَطُرْفَةٍ هُنَاكَ. كُنتُ أَرَانِي فِي ابْتِسَامَتِهَا أَسْتَخِفُّ بِكُلِّ مَصَاعِبِ الحَيَاةِ كَعَادَتِي، تِلْكَ الاِبْتِسَامَةُ الَّتِي لَا تُفَارِقُهَا إِلَّا إِذَا جَاعَتْ أَوْ أَرَادَتِ النَّوْمَ.
أَسْمَعُ فِي بُكَائِهَا حَاجَتَهَا لِلْحَنِينِ وَالعَاطِفَةِ وَالحُضْنِ، أَوَ لَسْنَا كُلُّنَا كَذَلِكَ؟!
نَحْنُ يَمْنَعُنَا الكِبْرِيَاءُ مِنَ البُكَاءِ، وَمِنَ التَّصْرِيحِ بِمَا نَحْتَاجُهُ، نُكَابِرُ فَنَخْسَرُ. أَمَّا هِيَ فَبَرَاءَتُهَا تُعَلِّمُنَا أَنَّ أَفْضَلَ وَسِيلَةٍ لِلْوُصُولِ إِلَى الهَدَفِ هُوَ التَّصْرِيحُ بِهِ، هُوَ الحِوَارُ، هُوَ الطَّلَبُ.
أَمَّا صَفْعَتُهَا غَيْرُ المَقْصُودَةِ عَلَى وَجْهِي فَكَانَتْ لِتُوقِظَنِي أَنَّ الحَيَاةَ لا زالَتْ جَمِيلَة رَغْمَ كُلِّ مَصَائِبِهَا، وَمِنْ زَحْمَةِ هَذِهِ المَصَائِبِ وَفِي عُمْقِهَا، هُنَاكَ البَسْمَةُ السَّاحِرَةُ، وَالصَّوْتُ الجَمِيلُ، وَالأَمَلُ المُنْتَظَرُ.
رَأَيْتُ فِيهَا عُمْرًا كَامِلًا مَرَّ عَلَيَّ، لَمْ أَنْتَبِهْ لَهُ، عُمْرٌ مَضَى لَمْ أَشْعُرْ بِسُرْعَةِ رَحِيلِهِ، فَتَذَكَّرْتُ مُبَاشَرَةً قَوْلَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
*“وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ”.*
وَقَوْلَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رِسَالَتِهِ لِأَخِيهِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ وَالَّتِي لَمْ تَتَجَاوَزْ بضْعَ كَلِمَاتٍ، لَكِنَّهَا اخْتَصَرَتِ الحَيَاةَ كُلَّهَا:
“فَكَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ وَكَأَنَّ الآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ”.
كَوْثَر أَضَافَتْ إِلَيَّ رُوحًا كُنتُ أَحْتَاجُهَا..
وَأَضَفْتُ لِلْحَيَاةِ ابْتِسَامَةَ قَلْبٍ كُنتُ أَتَمَنَّاهَا..
وَانْتَشَلَتْنِي مِنْ نَمَطِ عَيْشٍ كُنتُ بَدَأْتُ أَعْتَادُ عَلَى رُوتِينِهِ المقِيتِ، لِتُعِيدَنِي إِلَى حَيَاةٍ فِيهَا صَخَبٌ لَا يُفَارِقُ الهُدُوءَ، وَجِدِّيَّةٌ كُلُّهَا ضَحِكٌ، وَبَسَاطَةٌ تَتَمَازَجُ مَعَ الفَخَامَةِ.
أَخْرَجَتْنِي مِنْ جَفَافٍ كَادَ أَنْ يُسَيْطِرَ عَلَيَّ، فَرَشَّتْنِي بِنَمِيرٍ عَذْبٍ مِن “زَعَابِيلِهَا” لِتَقُولَ إِنَّهَا جَاءَتْ لِي. فَكَمَا أَنَا أَحْتَاجُهَا وَأَحْتَاجُ عُنْفُوَانَهَا، وَفِكْرَهَا التَّغْيِيرِيَّ التَّجْدِيدِيَّ، كَذَلِكَ هِيَ تَحْتَاجُنِي وَخِبْرَتِي، وَأَصَالَتِي، وَمَاضِيَّ المُمتَدَّ لِسَيِّدِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
يَكْفِينِي أَنْ أَقُولَ، إِنَّنِي كُلَّمَا كُنتُ أَتَضَايَقُ أَلْجَأُ لِكِتَابِ اللهِ أَفْتَحُهُ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِهِ، وَالتَّفَاؤُلِ بِمَا أَقْرَأُ مِن آيَاتِهِ.
الآن وَحِينَما أَنْتَهِي مِنَ القُرْآنِ، أَفْتَحُ صُورَتَهَا أَوْ أَحَدَ كْلِيبَاتِهَا، ثُمَّ أَبْتَسِمُ وَأُهْدِي مَا قَرَأْتُهُ لَهَا.
فَقَطْ..
لَيْتَ وَالِدِي وَوَالِدَتِي كَانَا مَعِي لِيُشَاهِدَا كَيْفَ تَغَيَّرَ وَجْهُ وَقَلْبُ ابْنِهِمَا بِقُدُومِ *كَوْثَر.*
وَعَزَائِي الوَحِيدُ أَنَّ خَالَتِي شَاهَدَتْ حَفِيدَةَ ابْنِهَا المُدَلَّلِ.