الملح السرمدي

 

 

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

حلقت بنا مستخدمة "درونها" الخيالي قائلة: "يحكى في قديم الزمان وسالف العصر والأوان أن رجلا كان يمتطي راحلته في بيداء ممتدة بامتداد البصر؛ حيث الحرارة اللافحة تفترش تلك الرمال الذهبية لتحولها إلى رمضاء حارقة، وكان ذلك الرجل مُمتنًّا لتلك الناقة التي تتهادى بخطى واسعة غير عابئة بلهيب الرمل، وإذا به يدخل في امتداد عجيب من اللون الأبيض الناصع فجأة، الذي بدأ يتهشم ككسر الخبز اليابس تحت خف ناقته، وبدأت درجات الحرارة تنخفض بشكل لافت ومع التقدم في السير أدرك أنه قد ضل الطريق، وأخذ يمعن النظر في البعد ليرى طيفا غريبا يأتيه من بعيد، ليتضح له شموخ شجرة "موز" يتدلى منها عذق موز "نغال" مكتمل النضج على ضفاف بحيرة لامعة، فحث السير مسرورا بما رأى، وما إن اقترب منها حتى هوت به ناقته في العمق وابتلعته الأرض وكأنه لم يكن"، فصرخ جميع الأطفال في تلك الحلقة خوفاً، لتقوم سليمة بنت خليف -رحمها الله- بتهدئتنا بقولها "لا تخشوا شيئا فـ"أم السميم" بعيدة عنَّا، وهي تبتلع من يقترب من كنوزها المدفونة تحت الأرض". وكانت أساطير "أم السميم" تأخذ حيزا لا بأس به في حكايا الطفولة.

وصلتني مقاطع الفيديو والصور المختلفة لـ"أم السميم" التي التقطها أبي -رزقني الله حسن بره وصحبته- باستخدام "الدرون" والكاميرات الاحترافية عندما قام بزيارتها بغرض التصوير التوثيقي لهذه البقعة العجيبة والجميلة من سلطنة عُمان، فاندهشت لذلك الامتداد الأبيض الرائع مترامي الأطراف من الملح في تلك الأرض السبخة، وكأنه امتداد سرمدي من الملح يمتد بامتداد البصر، ولولا تأكُّدي من أنه يقوم بالتصوير في سلطنة عُمان لظننت أنه في ألاسكا موثقاً تساقط الثلوج هناك!

ولمن لا يعرف "أم السميم" هي أرض سبخة تقع على الحدود بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، وتقع أكبر السبخات الداخلية في شبه الجزيرة العربية في ولاية عبري؛ حيث يبلغ طولها نحو 100 كم، وهي عبارة عن رمال متحركة أو أرض رخوة غير ثابتة، تكونت نتيجة تجمع مياة الأودية المنحدرة من جبال الحجر؛ حيث زار أطرافها الرحالة الإنجليزي "فون ريد" في العام 1843م، ووصف الجزء الجنوبي الشرقي منها بـ"البحر الصافي"، ويعتقد أن اكتسبت اسمها الذي يجمع على "سمة" -بكسر السين وتشديد الميم- من أرضها الهشة التي تشبه السمة (العزاف المصنوع من خوص النخيل، استخدموها قديما كالسجادة)، وبما أنها صنعت من خوص النخل فهي لا تحفظ الماء، وملح "أم السميم" الخادع يُوحي بأرض صلبة إلا أنه أكثر هشاشة من رقائق البسكويت، ويعمل كظل للماء المتجمِّع تحته، ومن هنا تنبع خطورة المشي على سطحها دون دليل.

عُرِف عن اليونانيين القدماء استخدام العلاج بالملح والأبخرة الملحية لبعض الأمراض، وفي العام 1976م كان الظهور الأول لكهف ملح صناعي في أوكرانيا، ثم انتشرت غرف/ كهوف الملح في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث استخدمتْ لغرض إعادة التأهيل ولعلاج أمراض العظام والجهاز التنفسي، والجيوب الأنفية، كما أنَّ انبعاثات الملح تعالج التوتر والأرق وفرط النشاط.

وقد سعدتُ بقيام وزارة النفط والغاز بتوقيع اتفاقية استكشاف البوتاس في هذه البقعة الممتلئة بالأسرار والكنوز في 26 من شهر يونيو 2023م، ولكن المجال مفتوح للخيال الاستثماري الخصب فيما يخص السياحة الاستشفائية.

--------------------

توقيع:

"والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة

لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ

والبدر لولا أفول منه ما نظرت

إليه في كل حين عين مرتقب

والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى في أَمَاكِنِه

والعودُ في أرضه نوع من الحطب

(الإمام الشافعي)