د. عبدالله باحجاج
التقيتُ وزيرًا خليجيًّا سابقًا، وكان من بين أحاديثنا تساؤل طرحته عليه في سياق نقاشات موضوعية وعميقة جدا؛ وهو: "كيف أصبحت مالكا لمجموعة شركات؟" فأرجع ذلك بصراحة مُطلقة إلى حاكم تلك الحقبة السياسية، مُوضِّحًا أنَّه في أحد لقاءات الحاكم مع الوزراء، وبُعيد الانتهاء منه، استدعى الحاكم هذا الوزير، وقال له: "لماذا لم تؤسس شركات مثل غيرك من الوزراء الذين غادروا هذه القاعة الآن؟"، ولم يشأ الوزير مقاطعة الحاكم، فتركه يسترسل قائلاً: "كل وزرائي عندهم عدة شركات وليس شركة واحدة، وهم يستحوزون على المناقصات الحكومية، وأنا أستمتع بصراعاتهم على المنافع"، ثم وجه الحاكم حديثه للوزير: "وأنت إلى متى ستظل وزيرا في الحكومة؟".
خرج الوزير من لقائه مع الحاكم بدافعية الأسد المفترس، فقد تبدَّد مفهومه عن عدم معرفة الحاكم بفساد وزرائه، وسريعًا أصبح مالكًا لمجموعة شركات من خلال المنح المالية والعقارية والمناقصات الحكومية وفق توضيحات الوزير، وقد كشفها لنا بحضور مجموعة من الأصدقاء. وانكشافات الوزير جاءت بعد أن بلغ من العمر عِتيا، وأصبحت قدماه لا تقدران على حمله، وغذاؤه يكلفه بضعة ريالات من ثرواته الضخمة.
ليس مُهمًّا أي دولة ينتمي لها هذا الوزير، فقصته تسقط على أية دولة عربية وخليجية، أي ليست حصريًا على دولة واحدة حتى نخصها بالذكر، ولو فتحنا نافذة على كل دولة الآن، فسنجد المسؤولين فيها -السابقين والحاليين- هم من بين من ينعمون بالترف والنعمة في عصر الضرائب، مع قلة مُنتفعة، بينما أعداد ليست بالقليلة بين فقر مؤلم، وآخر مدقع، أو سائرون نحو الفقر المُطلق، والمدقع والمطلق كلاهما واحد، ويصفان حالة الحرمان الشديد من الحاجات الإنسانية الأساسية.. وهذا وصف أطلقته الأمم المُتحدة عام 1995.
ولنا أنْ نُسقطه على كل دولة خليجية على وجه الخصوص، بعد التحولات في أدوارها الاجتماعية وتبنيها نظام الجبايات، فماذا سنجد؟ سنُحِيل الإجابة إلى آخر تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" عن الفقر في الخليج -وقد تناولناه في مقال سابق- ونربطه بمستقبل الفقر في الخليج في ضوء تداعيات الضرائب، وسياسة تقليص الدعم الحكومي في الدول الخليجية الست.
وحتى يتفادَى مسيرنا الوطني حقبة المسؤول التاجر، التاجر المسؤول، نتساءل: هل هناك مواد قانونية تمنع الجمع بين الأمرين؛ المسؤولية والتجارة؟!
نطرح هذا التساؤل في ضوء المساعي الحثيثة للنهضة المتجددة في مكافحة الفساد، والحفاظ على المال العام، وتسخيره في مساراته الوطنية، وقد نجحت في مفاصل إستراتيجية كثيرة، والتساؤل مبني على تراجع البُعد الاجتماعي من التطورات الاقتصادية الضخمة، وجعله تلقائيًّا وليس مُستهدفًا لذاته، وهذا من الآثار التي تدلل على وجود التاجر المسؤول بين المسؤولين، وجنوحه بالبعد الاقتصادي في سياساته وخططه وإستراتيجياته.
رُبَّما علينا هنا المطالبة بإشراك التفكير الاجتماعي في إطار العمل المؤسسي للجنة المالية والاقتصادية بعدما لم تنجح الثنائية المالية والاقتصادية.
والتساؤل كذلك مبنيٌّ على وجود حالات يدور الحديث الاجتماعي عن دورها في استقطاب منافع تتنافس فيها مع مواطنين. وفي هذه الحالة: من ستكون له الغلبة؟ بديهيًّا رُبما المسؤول، فكلما يكون وزن المسؤول ثقيلًا، سيميل الترجيح نحوه حتى دون أية تدخلات منه، لذلك ينبغي أن يختار بين موقعه كمسؤول وكونه تاجرًا، وقد كشف لنا أحد المتضررين من هذا الجمع -بين السُّلطة والتجارة- أنَّ والده خسر منفعة تتجدَّد سنوياً لصالح مسؤول كبير، رغم أن شركة والده تضامنية -أي بشركاء عمانيين- ويعتقدون أنَّ إرساء المنفعة على هذا المسؤول يرجع لوزنه وتموقعه.
لذلك؛ ينبغي غل يد المسؤول في التجارة، وعدم منافسة المواطنين في أرزاقهم، لأنَّ التجارة تفسد سلطتهم، أو على الأقل تضر بسمعتهم حتى لو كانوا أبرياء، وعليهم أن يتركوها لبقية المواطنين، وينشغلوا بمهام مواقعهم الحكومية؛ حيث إنَّ استمرارهم في الجمع بين المسؤولية التي تُعزِّز السُّلطة، والتجارة المنتجة بدورها للثروات، يكرس للاختلالات في مستقبل اجتماعي يُهدد بالتأسيس لنظام اجتماعي يتألف من طبقتين فقط، لا بينهما طبقة ثالثة (الطبقة الوسطى)، وكل من يُحلل السياسات والخطط التي اتَّخذت منذ سنوات قليلة وحتى الآن، ويُضيف إليها الملامح المستقبلية التي كُشف عنها مُؤخرًا، سيخرج برؤية نظام الطبقتين، وسيكون لنا مع هذا الاستنتاج رؤية تحليلية مقبلة.