د. مجدي العفيفي
قصة مدنتين.. صور العمانية وصور اللبنانية
(9)
تداخلت الأزمنة وتشابكت الأمكنة، وتضافرت في القلب ثلة من الخواطر والاستدعات التاريخية والثقافية والحياتية، طوال متابعتي على مدار عشرين ساعة بامتداد ثلاثة أيام، لشواهد ومشاهد ندوة انضوت تحت عنوان (محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العُماني ولاية صور 23-25 مايو 2023م) وجدليات ( 27 ورقة علمية) عرضها ثلة من الباحثين من عمان ومن أكثر من دولة عربية، بإشراف الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية؛ إذ تؤكد لي منطقة الخليج، أن دولها تتجاوز الصورة الشائعة عنها، كحقول طاقة وآبار نفط، بل إن تجليات الروح الإنسانية هي الأقوى أثرا، والأبقى عمرا، وأن صوت الحضارة في المنطقة، أصدق إنباءً وأنباءً، وأنها الماضي الممتد لهذا الحاضر المستمر في التأكيد على الذات، والمستمد من منظومة القيم والتحولات، وأن الجغرافيا تتوارى في مرجعيتها إلا قليلا، ساعة أن ترتحل في الجذور، فيتجلى التشكيل التاريخي الواحد، حاضرا وحضارة، مثل هذا التصور، يجد تصديقا له في المسافة المتحركة، بين مدن خليجية عريقة، وبالأخص في سلطنة عمان ذات الجذور التاريخية الموغلة في العراقة، وذات الأبعاد الحضارية في المعنى والمبنى، و«صور« مدينة من المدن العمانية الكبيرة التي تتورط في حبها، وللمدن قلوب تبادلك المشاعر والأحاسيس كما سنذكر بعد سطور.
(10)
على امتداد 33 كيلومترا، هي المساحة التي يستغرقها الطريق العملاق بين مسقط وصور، كانت الأفكار تترى، والخواطر تتراءى، من خلال شبكة المواصلات والاتصالات التي تلتف فتلف المدن العمانية، وأتسمع توصيف السلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله، لمدينة(صور): «من هذه المدينة التاريخية، انطلق الشراع العماني حقبة طويلة من الدهر، يجوب البحار والمحيطات، زاهيا متألقا كالغيمة البيضاء الصافية، يحمل الخير إلى أركان الدنيا الغائبة، ويؤوب ظافرا بصنوف من السلع والبضائع المتنوعة في تبادل تجاري كبير ومنتظم ،جعل من عمان إحدى المحطات التجارية الهامة على امتداد فترة غير قصيرة من عمر الزمان».
لعل السؤال الذي يتبادر إلى الخاطر، هل ثمة علاقة بين مدينة «صور العمانية» ومدينة «صور اللبنانية»؟ ثم لماذا هذا التشابه في الاسم والعنوان، والزمان والمكان، والانفتاح والتجارة، والحركة والحضارة؟
(11)
قبل حين من الزمن، قمت بزيارة علمية وتاريخية إلى مدينة«صور اللبنانية» ومكثت فيها عشرة أيام، متنقلا بين آثارها ومآثرها، وأوجاعها وأوضاعها وعذاباتها التي تتجاوز عذوبتها، تقرأ في وجهها الكثير من الخطوط ، وترى في عينيها المثير من القراءات، وذلكم لعمل مقارنة وتحقق مقاربة، بين المدينتين العريقتين، بتحريك ذاكرة التاريخ والتنقل بين أطلس الجغرافيا، هناك وسط السهل الممتد من رأس الأبيض في الجنوب، حتى مصب نهر القاسمية «الليطاني» في الشمال والذي يبلغ طوله اكثر من عشرين كيلومترا؛ حيث تتمدد المدينة اللبنانية، ومعنا مجموعة من الخيوط والخطوط التي حاول المؤرخون أن يسلكوها من بين العلاقات المتشابكة في الجزيرة العربية وما حواليها، خاصة أن كثيرا من أبناء صور العمانية، يمتلكون مخطوطات عتيقة، ويرددون روايات كثيرة، يتنسم منها رائحة حضارة قديمة، وتسمع منهم أصداء أصوات عن الفينيقية والفرعونية والهندية والكلدانية والآشورية والبابلية. الروايات كثيرة، والاستنتاجات متباينة، والآراء متنوعة، لكن القاسم المشترك يتمثل في القدم والعراقة.
وهذا في حد ذاته يشكل قيمة تاريخية، وعمقا في التواصل بين الشعوب، وتأصيلا للبدايات المتشابكة، والأبجديات المشتركة، والأفعال المشاركة في صناعة الحضارات، التي هي من نفس واحدة في الأصل والتأصيل، أيا كانت المفارقات، وبصرف النظر عن الفروقات.
(12)
النظرة التاريخية تقول إن الفينقيين جاءوا من منطقة الخليج العربي، حيث أتقنوا فنون الملاحة في البحار العربية ونقلوها معهم إلى البحر المتوسط وبسطوا حضارتهم العظيمة على طول الساحل المتوسطي والشاطىء الافريقي، وأن مدينة «صور العمانية» كانت الوطن الأصلي للفينيقيين الذين هاجروا إلى لبنان على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وأنهم أسسوا مدينة «صور اللبنانية» وسموها بنفس اسم صور العمانية، كان ذلك عام 2750 قبل الميلاد، وفقا لرواية المؤرخ اليوناني هيردوت نقلا عن علماء مدينة صور اللبنانية».
تبدأ أحاديث المؤرخين القدامى والمعاصرين من القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، عندما تكاثرت هجرات عربية بشرية كثيرة مصدرها الجزيرة العربية، وأخذت في التزايد في شمال سوريا وجنوبها، وسماها السومريون باسم عمورو «الغربيين» لأنها نزلت في غربهم، وعرف الذين توطنوا من هذه الجماعات المهاجرة في وسط سوريا حتى فلسطين بالكنعانيين، أما الذين نزلوا على طول الساحل السوري فقد سماهم الإغريق بالفونيين وهو الاسم الذي شاعت كتابته اليوم بالفينيقيين.
يمسك المؤرخون والباحثون بمجموعة من الأدلة، تأسيسا على ما ذكره المؤرخ «هيردوت» من أن جماعات الفينيقيين كانت تسكن على ساحل البحر الأريتري، أي ساحل بحر العرب من ناحية المحيط الهندي، ويقول، كما يقولون هم عن أنفسهم، انتقلوا إلى سواحل سوريا المطلة على البحر المتوسط، وقد ذكر «هيردوت» أن تلك الهجرة وقعت في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأيد هذا الرأي المؤرخ اليوناني (استرابرن) الذي وجد تطابق أسماء مدن الفينيقيين على البحر المتوسط، مع مدنهم السابقة في منطقة الخليج العربي، أثناء زيارته إلى المنطقة، رغم مرور ألفي سنة على الهجرة الفينيقية، وقد سجل اعترافات سكان المنطقة بأن سكان مدينة صور من مهاجريهم، وبالفعل وجدت أسماء متشابهة بين تلك المدن في الخليج العربي وعلى ساحل المتوسط مثل «صور العمانية» و«جبيل ـ السعودية» و«عراد ـ البحرينية» والتي حورت إلى «أرواد» إحدى جزر الفينيقيين على شاطىء طرطوس على ساحل البحر المتوسط.
تشابه الآثار التي عثر عليها في البحرين حديثا مع آثار الفينيقيين على ساحل البحر المتوسط، وقد أجرى «تويودورينت» عام 1889م، تنقيبا في مقابر البحرين وبعث ببعض ما عثر عليه إلى المتحف البريطاني لفحصها فتبين انها من مقابر الفينيقيين قبل هجرتهم إلى سواحل المتوسط، كما عثر الرحالة «جون فليبي» (1885 ـ 1960) على مثل هذه المقابر في«الخرج» والأفلاج من أعمال «نجد».
تشابه نماذج السفن الفينيقية التي عثر عليها مرسومة على حوائط المقابر، مع السفن العربية المستحدثة في منطقة صور العمانية والخليج العربي، من حيث وجود سفن ذات قاع عميق ليس لها ظهور، تحاط بسياج مرتفع، لكي تحمل ما تستطيع من البضائع، وهذا النموذج من السفن مرتبط ببحر العرب والخليج العربي، وظل حتى العصور الحديثة، أما شكل الشراع فقد ظل يتطور حتى وصل إلى شكله المثلث في مراحله الأخيرة.
إن مدينة «صور» التي تعني الصخرة، باللغة الفينيقية، تجسد ارتباطها الأزلي مع شقيقتها في ذات الاسم، وفي الموقع البحري الذي يجسد عبقرية المكان التي كانت المنبه الأول إلى شهرة كل من المدينتين، في النشاط الملاحي والتجارة البحرية، حسب السياق التاريخي لعصر كل منهما، والمعروف أن العرب كانوا قديما يحملون معهم أسماء آلهتهم وأوديتهم وقراهم وغيرها من الأسماء إلى موطن هجرتهم وسكناهم. و.. هناك وسط السهل الممتد من رأس الأبيض في الجنوب، حتى مصب نهر القاسمية «الليطاني» في الشمال والذي يبلغ طوله اكثر من عشرين كيلومترا. وتتمدد مدينة صور اللبنانية، زرتها ومكثت فيها عشرة أيام، متنقلا بين آثارها ومآثرها، وأوجاعها وأوضاعها وعذاباتها التي تتجاوز عذوبتها، تقرأ في وجهها الكثير من الخطوط، وترى في عينيها المثير من القراءات.
(13)
من الدلالات الباهرة لهذا الملتقي العلمي، أنه يحمل دعوة للبحث في القواسم المشتركة سعيا إلى تقنين شخصية المدية العربية، ذلكم أن المدن مثل الناس، تولد لنجم ساطع، أو تولد لنجم خابٍ، وتولد للشقاء والعناء، فإذا هي في القمة، أو إذا هي في القاع، وإذا هي تعرف الشرف والسؤدد، وإذا هي تتعرض للمهانة والعذاب، ولكنها أيضا كالناس إن صدق معدنهم صدقوا، وإن كان معدنهم زيفا اندثروا، مهما تألق وجودهم للحظات، ومهما أحدثوا من ضجة وأثاروا الإهتمام، لا يستمرون إلا إلى حين، ثم إذا هي صفحة من وجود انطوى بخيره وشره، لا يعاد لها نشرا أو إحياء، وكم من مدن تألقت في عصر وازدهرت ثم اندثرت تماما إلى لاعودة، وكم من مدن سميت بالمدن الأشباح، شهدت الثروة والجاه والمجد، وامتلأت بيوتها وأزقتها بالأطماع والطموحات والعنف، ثم لم تبق منها إلا أطلال تحكي أن حياة كانت هنا، وأن حياة انسحبت من هنا إلى الأبد.
(14)
شكرا لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وعرفانا للدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس الهيئة، وكل الذين شكلوا منظومة هذه الندوة العلمية، ذات المستوى الرفيع في الرؤية والأداة، والتي جعلتنا نقوم بزيارة جديدة للتاريخ والجغرافيا والثقافة والبحر والحضارة والاقتصاد والعلم والفلك، ونتحاور ونتجادل ونتفاعل.
(15)
وإلى لقاء علمي قادم مع مدينة عمانية من المدن التي جادلت الزمن، ولا تزال تجادله بصورة أو بأخرى، واتخذت مها الأحداث التاريخية مسرحا لاكتشاف معادن الشعوب.