الغزل السياسي في "رائية" القاضي عيسى الطائي وأبي سلام الكندي

 

ناصر أبوعون

 

الطائيّ والكنديّ شاعران من روّاد مدرستي البعث الأدبية والتنوير الفكريّة

التَّناص والمعجم القرآنيّ يُشكِّلان المساحة الواسعة من خارطة القصيدة

محبوبة الشاعرين كانت المعادل الموضوعي للوطن عُمان

توظيف البيان الحركي وارتكاز الشاعرين على الاستعارة والكناية والمجاز

 

في أَتُون الصراعات السياسية التي حاقت بالإمبراطورية العُمانية، وأتتْ إليها من الخارج تنقصها من أطرافها، وتؤجج نار الخلاف بين أبنائها، وأعملت سيف الوقيعة فشقّت به جيب وحدتها الجغرافية، فاصطنعت على عينِها من خارطتِها دولتين مُتنازعتين؛ فكان الشريطُ الساحليُّ بظهيرٍ صحراويٍ وعاصمتُه مسقط تحت سيطرة سلطان مسقط، والولايات الداخلية تحت سيطرة الإمامة وعاصمتها نزوى.

في هذه الأجواء التي شهدت إعصارًا من الاستقطاب السياسيّ، ظهرت مدرسة وطنية استنهاضية رفع لواءها علماء وشعراء عُمان، تدعو إلى إنقاذ البلاد من خُطّة التشرذم والانقسام التي أُعِدّت سلفًا خارج البلاد لجرّها إلى مستنقع التجزئة والاحترابِ الأهليّ، وكان من طلائع روادها شاعران؛ أمّا الشاعر الأول فهو الشيخ القاضي عيسى بن صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي (1306هـ -1889م/ 1362هـ - 1943م)، وقد قد قضى نحبه بعد أن بلغ أشدّه وعاصر ثلاثة سلاطين من آل سعيد (فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد (1305ـ 1331هـ/1888 ـ 1913م)، و(تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد (1331ـ 1349هـ/1913ـ1931م)، و(سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد (1349ـ 1390هـ/1931ـ 1970). أمّا الشاعر الآخر فهو ابن خاله الشاعر أبو سلام سليمان بن سعيد بن ناصر الكندي (1292-1380هـ/1875 - 1960م)، وهو أكبر من الشيخ عيسى الطائي بـ14 عامًا، وقد لقي ربّه هو الآخر بعده بـ17 عامًا.

نشر الخزام.jpg
 

لواء البعث والتنوير

ولعلّ شعلة التنوير التي حملها الشاعران عيسى الطائيّ وأبو سلام الكنديّ وبعض أعلام عُمان السابقين عليهما والمُجايلين لهما في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات انبلاج فجر القرن العشرين والتي استوقدوا ذُبالتها من الاتصال بروّاد النهضة العربية وحركة التنوير القوميّة بجناحيها؛ الأدبيّ المتمثل بـ(مدرسة الإحياء والبعث الأدبيّة) التي قادها ربُّ السيف والقلم الشاعر المصريّ محمود سامي البارودي، وجناحها الفكريّ المتمثل بالمجاهد الليبيّ سليمان باشا البارونيّ (1870- 1مايو 1940) مؤسس الجمهورية الطرابلسيّة في شمال أفريقيا، وقد رافقه الشاعران في زيارته لعُمان بتكليف من السلطان تيمور بن فيصل بن تركي آل سعيد، وطافا معه سائر الولايات سنة 1924، واتخذه (أي سليمان باشا البارونيّ) الإمامُ محمد بن عبد الله الخليلي إمام عُمان مستشارًا، واستقر الباروني في عُمان حتى وافته المنيّة عام 1359 هـ / 1940م في الهند أثناء رحلة علاجه من الملاريا.

مبايعة الإمامة والمنفى

ومن نافلة القول إنّ الشاعرين في مطلع الشباب وفورته، واحتدام الروح الوطنيّة الثائرة، ورسوخ العقيدة الدينية الثابتة، ذهبت بهما إلى مبايعة الشيخ العلّامة الزاهد سالم بن راشد الخروصيّ إمامًا لإباضية عُمان؛ يوم الإثنين 12 من شهر جمادى الآخرة عام 1331 للهجرة بمسجد "الشرع" في بلدة "تنوف" بولاية نزوى والتي أرّخ لها الشاعر أبو مسلم البهلانيّ مؤيدًا ومبايعًا بقصيدة جاء فيها: [(يا سالم الدين والدنيا ابن راشد خذ // أمانة الله والأقدار أعوان)، (أنت الضليع بها حملا وتأدية // إذ كل أمرك تدبير وإتقان)]، ولم تدم طويلًا إمامته إلّا 7 سنوات ما بين (1913- 1920)، فلمّا رفض الصلح مع السلطان تيمور بن فيصل، وانهزم جيشه وقضى نحبه شهيدًا، خرج الشيخ عيسى الطائي من مسقط خائفًا يترقّب وارتضى لنفسه منفى اختياريًا، فرحل إلى ولاية سمائل واستقرّ فيها 6 سنوات، بعد أن استمنكت قوات السلطان من "اعتقال أفراد عائلته، من هؤلاء الذين جاهروا بتأييدهم للإمام الخروصيّ، فكان أنْ أُعتقِلَ شقيقُه محمد بن صالح، وابنُ عمه علي بن ناصر، وعمُه سليمان بن عامر، وابنُ خاله الشاعر أبي سلام سليمان بن سعيد الكندي، وتمَّ نفيهم إلى جزيرة سمربور في الهند" (1).

شعر الغزل السياسي

وما سبق من توطئة تاريخية كانت تمهيدا للدخول إلى محراب قصيدة غزليّة ظهرت موثّقة في ديوان قاضي قضاة مسقط الفقيه الشاعر عيسى بن صالح الطائي تحت عنوان: (آهٍ يا ظبيُ) بقافية رائية على بحر الرمل اشترك الشاعر مع ابن خاله الشاعر أبي سلام الكنديّ في قرضها، وانطلاقا من تاريخ إنشاء القصيدة، ومعطيات العصر الذي أُنتجتْ فيه يمكن وضعها في خانة شعر الغزل السياسيّ المستند إلى رؤية عُذريّة صُوفيّة؛ فشعر الغزل السياسي، "يمثل أحد الوسائل التي اتخذها الشعراء لبيان مواقفهم السياسية، على خُطى الشاعر عبيد بن قيس الرقيّات في شعره؛ حيث تغزّل بنساء البيت الأمويّ" (2)؛ فمن مطلع القصيدة إلى منتهاها، تضوي أمام القاريء المُطالع للتاريخ السياسيّ والمُناخ الاجتماعي العُمانيّ العديدُ من الإشارات التي تشي بالعديد من الدلالات، وتأخذه إلى مناطق أبعد من الوقوف على مواطن التشبيب بالمحبوبة، وجسدانية الوصف، وتقذف به إلى بحار التأويل الموّارة، وتغوص به في مسارب المعاني، وتفتح له آفاقا غير محدودة لاستنباط المضمر والمطمور تحت ركام من الصور الشعرية المكثفة، والمختبيء من المعاني تحت طبقات المجازات والانزياحات اللغوية المتتالية. فضلا عن حضور التَّناص والمعجم القرآنيّ بقوة والذي يُشكِّل مساحة ليست بالقليلة من الكم الإحصائي داخل القصيدة. [(من خلال السجف ظبيٌّ قد نظرْ // فاترَ الطرف بعينيه حورْ)، (فغدا يبعد عني كلما // جئته أسعى على ساق البصر)، (فبدا منه التفاتٌ عندما // قد رآني فتعاطى فعقر)، (قلت: مَن لي؟ عندما شاهدته // يا لِقومي عزَّ مني المُصطبر)].

صورة القصيدة.jpeg
 

الترميز وإنتاج الدلالة

أمّا على المستوى إنتاج الدلالة والترميز، فالقصيدة حافلة به، بل تضجّ بالرؤى التي تحيل القاريء إلى متتالية من الدلالات المشتقة من الواقع الاجتماعي، وتشير إليها العديد من السياقات المترابطة داخل نسيجها وذلك لأن "العمل الأدبيّ كونٌ رمزيٌّ تُنشئه زُمْرة اجتماعية يمثلها مبدع العمل الأدبيّ، ولها موقف مشترك تجاه هذا الكون الذي ترتبط ببنيته، إن كانت متماسكة بالقدر الكافي، بعلاقة تماثل مع بنية عالم الزُّمْرة الواقعيّ". (3)

وبمطابقة الواقع السياسي لتاريخ إنشاء القصيدة، يحيلنا الشاعران في إطار هذه المساجلة الشعرية التكاملية إلى العديد من الرموز التعبيرية التي تولّدت داخل السياق العام، فالمحبوبة في قصيدة الشاعرين يمكن تأويلها بالوطن (عُمان) التي يتنازعها محبوها من (دولة مسقط)، و(أتباع الإمامة) (وكل يدعي وصلاً بليلى//وليلى لا تقر لهم بذاك). ومن سياقات هذا التأويل تنثال العديد من الرموز التي تحيل إلى معانٍ شتى نذكر منها: التناص القرآني المباشر (فتعاطى فعقر)، وتوظيف أداة النداء (يا) للبعيد مع كلمة (قومي) إشارة إلى بني وطنه في قوله: (يا لقومي) إشارة للصراع السياسيّ بين مكونات اللُّحمة الوطنية وما حدث بينهما من تنازع أدى إلى التباعد بين القلوب والأفكار، ومخالفة النهي الإلهي الوارد في الآية: (46) من سورة الأنفال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ثم تتوالى الدلالات في هذا السياق ومنها قول الشاعرين: (قَتَلَ العُشَّاق)، و(قِتال الصَّبّ)، (كلُّ أهل العشق منه في خطر). ومن ثَمَّ فإنّ "التفاوت بين الصورة الأدبية والواقعي أو بين التجريبيّ والممكن، يصبح جليا أكثر إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار وجود جمهور ليس مجرد متلقٍ للرسالة الشعرية فحسبُ، بل ومرسل لها كذلك. بحيث أنّ الصورة الأدبية يتم بناؤها انطلاقا من مجموعة من الملامح المختارة عشوائيا من واقع الشاعر ومن واقع جمهوره في الوقت نفسه" (4).

ديوان عيسى الطائي.jpg
 

توظيف البيان الحركي

وما سبق تأويله واستنباطه من مجازات وصور ذات دلالات، وصور تحمل طاقة ترميزية تتولّد من خلالها العديد من المعاني الثرّة داخل بنية وسياق قصيدة (آهٍ يا ظبيُ) يقودنا إلى الإقرار بأنّ "حقيقة إدراك الدلالة الرمزيّة مرتبط بإدراك السياقات النصيّة التي يرِد فيها. على اعتبار أنّ السياق مجموعة من الرموز المختلفة في وظائفها، وهي ذات دلالة ثنائية تقوم بين أطرافها علاقة من التكيّف والتبادل" (5) والتي تنتج من توظيف البيان الحركي داخل القصيدة وقد ارتكز الشاعران على الاستعارة والكناية والمجاز ومن ثَمَّ إحالة القاريء لاستنباط (المعنى/ المدلول) من خلال ربطه بـ(اللفظ/ الدال) ويحدث هذا غالبا بانتقال الذهن بينهما في حركة مكوكية لاقتناص المعنى المراد الذي تقصّده الشاعران. ومنه البيتان الأخيران في القصيدة. [(كيف أسلوه ودمعي مسبل // فوق خدي جاريا مثل النهر؟)، (كلّما رُمتُ اصطبارا قادني // نحوه قلبٌ أبى أن يصطبر)]، وهذه الثنائية "بدورها تتيح للرمز الاندماج والانصهار في البنية الشعرية فيتمركز في متنها النَّصيّ بما يحمله من إمكانات دلالية" (6)

الصورة العذرية واللغة الصوفية

غير أنّ السؤال الجوهريّ الجدير إثارته في هذا المقام: لماذا اختار الشاعران عيسى الطائي وأبي سلام الكندي غرض الغزل في صورته العذريّة ولغته الصوفية عالية الترميز ليكون حاملا لرسالة السياسية؟

وقد عثرنا على نصف الإجابة عند الدكتور غنيمي هلال حيث "ينسب هؤلاء المحبين إلى الروحانيّة، والبُعد عن المتع الجسديّة، وإلى الزهد، وإلى (جعل الجهاد في الحُب قرين الجهاد في سبيل الدين)، وإلى العِفّة التي ضُرِب لها مثلا بعفّة المؤمن في قصة يوسف وزليخا في القرآن الكريم، ومَسلك العُذريين عنده يُقارَن بمسلك الزُّهاد الاتقياء إذ أنهم وجدوا طريقا فيه بين زهدهم ومطالب عِفتهم، وأطاعوا في حُبِّهم العفيف قلوبَهم ودِينَهم، ويُبررون حبهم بالقضاء والقدر فيُذعنون له باعتباره من قضاء الله يُرْجَى عليه الثواب" (7)، فرغم تعدد صفات (المحبوبة/ عُمان)، وما تحمله صورتها الذهنية المثالية التي رسمها مِخيال الشاعرين عيسى الطائي وأبي سلام الكنديّ بريشة قلبيهما المُترعين بالولاء، وتلازمها الصورة الواقعية المزدانة بألوان الصفاء والعشق الوراثيّ المجبولَين عليه والذي ربّته في نفسيهما الأسرة العلمية التي ينتميان إليها، والكامن في جرثومة نسبهم صارت لصيقة ومطبوعة على وجه الوطن (المحبوبة/ عُمان) وما تفرضه هذه الصورة الجسدانيّة من مبررات الغواية؛ إلا أنّ العِفّة التي اكتسبها الشاعران بفعل عوامل النشأة التربوية في أسرتيهما المشهورتين بأنهما من محاضن البيئة العلمية في عُمان، فضلًا عن العقيدة الإيمانية المكتسبة من الجلوس إلى علماء الشريعة والفقه قد فرضت عليهما الجهاد في سبيل (المحبوبة/ عُمان)، ومن جميل وصفهم لها قولهم: [(ذو قوام كقضيب البان قد // قتل العشاق لما أن خطر)، (وله وجه جميل مشرق // فضح الأقمار لما أن سفر)، (ولخ جيدٌ طويل قد حكى // جيد ريم بجمال قد بهر)، (وله طرف كحيلٌ إذ رنا // لقتال الصبّ سيفًا قد شهر)، (وله خصر دقيقٌ ناحلٌ // ثبت الطرفُ به لمّا نظر)، (وله ردفٌ ثقيلٌ إذ مشى // كل أهل العشق منه في خطر)].

المنزع الصوفيّ في الغزل

سبق الإشارة إلى العقيدة الدينية، والمنهاج السياسيّ الذي انعقدت عليه المؤاخاة نسبا وصهرا ومذهبًا بين الشاعرين الشيخ عيسى القاضي وابن خاله أبو سلام الكنديّ، ومن ثَمَّ فإن اجتماعهما على مائدة الشعر وتحت لواء قصيدة غزلية ظاهرها صريحٌ وباطنها عُذريّ خالص، وغرضها سياسيّ صافٍ لا تشوبه المباشرة الساذجة في التأويل، ومنزعها صوفيّ يحلّق في سماء الحب العذريّ العفيف.

فإنّ مذهبنا الذي نطمئن إليه في القراءة أدونيسيٌّ محضٌ، يذهب إلى "تأويل ظاهرة الحبّ العذريّ بأنّه ليس حُبًّا إنسانيا طبيعيًا، وإنّما هو حب صوفيٌّ، فالحبيبة في هذا الحب تتحوّل إلى فكرة وتصبح رمزا للمطلق، وينتج عن ذلك أمورٌ ثلاثة: الأول: إنّ الحبيبة تُحَبُّ لذاتها كما يُحبُّ الإله لا رغبةً ولا رهبةً ولا طمعًا ولا خوفا من العذاب، والثاني: هو أنّ المُحبّ لم يُوجّه الحُبّ العذريّ هذه الوِجهة الفلسفيّة الصوفيّة، ومن المشهور أنّ أهل التصوّف بعد القرن الخامس للهجرة أحبّوا قصة المجنون وليلى، لما في حُبّه من طُهر وعفاف وشدة حبِّه لله وشوقه إلى وصله" (8).

تقنيات الغزل السياسي الصوفيّ

نعثرُ في في قصيدة (آهٍ يا ظبيُ) على مجموعة من التقنيات الفنية التي تسهم في تشذيب الصور الشعرية، وتؤصل للفكرة، وتستقطب القاريء إلى محرابها، وتصحبه من البحار بدءًا من المفتتح، إلى أن يحطّ عصاه على شاطيء القصيدة، ويدخل في محراب من التأمل، وقد يجنح بخياله إلى المحسوسات، لكنّ الإشارات النورانيّة الصوفيّة الصافية ترده من غفلته الجسدانية إلى عالم النفس المطمئنة الأمّارة بالحب، فالشاعر العذريّ "دائم العطاء يذوب في عطائه (صوتُ الأنا الماديّ)، ويتوّحد في قيمة إنسانيّة تمثل أعلى صور التضحية والمكابدة من أجل الروح فهي في صراع بين الروح والمادة" (9). وقد رصدنا ثلاث تقنيات فنيّة داخل القصيدة اعتمد عليها الشاعران في إيصال الرسالة المُرمّزة إلى الجمهور، وإعطائه مفاتيح فكّ شفيرتها المعقّدة، ومن ثَمَّ الاستمكان من فهم ما وراء الألفاظ والصور الشعرية من دلالات، وهي على النحو التالي:

(أ) تقنية الحوار

في القصيدة، وفي بيتين فقط ظهرت تقنية الحوار، وهي تتأرجح بين صيغتي (الديالوج/ الحوار الخارجي مع المحبوبة/ عُمان والهائمين حُبّا فيها) و(المنولوج/ الحوار الداخلي مع الذات)، "ولايقف الحوار عند الصيغة القولية فحسبُ، بل تعدّاه إلى استخدام صيغة النداء من أجل تنبيه أسماع المتلقي لتحقيق الهدف المنشود، فصيغة النداء لها علاقة متينة بالحوار وذلك لأنه قائم على تنبيه المخاطب وطلب مباشر من المقابل اتخاذه بعدًا مكانيا يتمثل في مخاطبة القريب والبعيد"(10)، كما نقرأ في هذا النموذج: [(قلتُ: من لي؟ عندما شاهدته // يا لِقومي، عزَّ مني المصطبر)، (فمضى يعدو وروحي خلفه // قلتُ: قف لي يا أخا البدرِ الأغرْ)].

(ب) تقنية التكرار

تتبدى أيضا ظاهرة التكرار داخل قصيدة الشاعرين اعتمادا على شبه الجملة المُقدّم والمتمثل في حرف الجار المتبوع بضمير الغائب (له) الشديد المجهور المضموم مسبوقا بـ(واو) العطف الدالة على تتابع صفات المحبوبة، وهو من صيغ (التكرار البسيط)، وقد تكرر خمس مرات في متوالية موسيقيّة جرسيّة مع بداية كل بيت شعريّ، ونرصدها هنا: [(وله وجهٌ جميل)،(وله جِيدٌ طويلٌ)، و(له طرفٌ كحيلٌ)، و(له خصرٌ نحيلٌ)، وله رِدْفٌ ثقيلٌ)]. "فتكرار الحرف هو أسلوبٌ يكرّسه الاستعمال اللغوي لمحاكاة الحدث بتكرير حروف الصيغة مع ما يصاحب ذلك في إبراز الجرس" (11) الموسيقي الخفيف، أحدث تناغما، وانسجاما وكان حاملا للمعنى والدلالة، داخل سياق القصيدة، مُسهما في فكَ رموزها المشفّرة، ودافعا للوقوف عليه للتأمل في اللفظ والصورة الشعرية التابعة له، والعناصر الجمالية والجسدانية التي هي بمثابة شرائط الجمال العامة والمتفق عليها في هذا العصر، وجاء التكرار للضمير "لإدخال التنوع الصوتي للتأكيد على أمر اقتضاه القصد، فتساوت الحروف المكررة في نطقها له مع الدلالة في التعبير عنه" (12).

(ج) تقنية الرمز

لا يختلف اثنان من النقاد على سيادة الرمز في الشعر قديمه وحديثه، بل إنّ ميلاد الرمز سابق على ظهور الشعر، فهو قرين التواصل الإشاريّ، والرسوم التعبيرية على جدران الكهوف، وأداة من أدوات الخطوط الهيروغليفية والمِسماريّة والآرامية القديمة، وسائر اللغات الأولى في العصور السحيقة، وإنّ كل ما حدث هو تطور للرموز منذ ظهورها البدائي وصولا إلى ما تحمله من مضامين فلسفية، وتوظيفات رياضية داخل منظومة علوم ووسائل تكنولوجيا الاتصال، وفي هذه القصيدة المشتركة بين الشاعرين الشيخ عيسى الطائي وابن خاله أبو سلام الكنديّ تمّ توظيف الرمز بشكل صوفيّ عالٍ، وقد جاء التوظيف على معنيين اثنين: أمّا المعنى الأول؛ فقد ظهر في استخدام صورة (الظبي) وما تكتنزه هذه الصورة من دلالات في المخيال العربيّ وقد انتقل بها الشاعران من المعنى العام والجسدانيّ إلى المعنى الخاص الدينيّ والإشارة به إلى (علم التوحيد) الذي أجمعت عليه الأمة الإسلامية. وهو منهج التزمه سائر الشعراء المتصوّفة ومن مأثور ما قرأناه في هذا المعنى ما نظمه الشاعر عبد الغني النابلسيّ (ت 1147) من بحر المديد قائلا: [(لم أزل في الحُبّ يا أملي // أخلط التوحيد بالغزلِ)، (وعيوني فيكَ ساهرةٌ // دمعها كالصّيِّبِ الهَطَلِ)]، وأمَّا المعنى الآخر، فقد تقصَّده الطائيّ والكنديّ في التعبير عن ذوبانهما في (الحبّ الإلهيّ)؛ حيث لم يجد الشاعران اللذان استبدّت بهم النزعة الصوفية وملأت عليهما حياتهما بعد أفول نجم إمامة الشيخ الزَّاهد سالم بن راشد الخروصيّ، سوى "الاقتراب من إنسانيتهم ليتصبّروا، فتعشّقوا الجوهر الأنثويّ واتخذوه رمزًا للحُبّ الإلهيّ، وهذا ما قرّبَ بين تجربتي الحُب العذريّ والحبّ الإلهيّ، حيث استعمل الشعراء اللغة العذريّة ومفرداتها أمام فقر الحال والمقال فتحوّلت مراسم العشق البشريّ مناجاة للذات الإلهيّة" (13).

**********

المصادر والإحالات:

(1) انظر: الأدب المعاصر في الخليج العربي، عبدالله الطائي، معهد البحوث والدراسات العربية، مصر، 1974. 2- دليل أعلام عمان، السعيد محمد بدوي وآخرون،المطابع العالمية،الطبعة الأولى،1991.

(2) انظر: أدب السياسة في العصر الأموي، أحمد محمد الحوفي، دار القلم، بيروت، لبنان، ص:257.

(3) انظر: سوسيولوجيا الغزل العربيّ، الشعر العذري نموذجا، الطاهر لبيب، ط1، 1987، ترجمة: مصطفى المسناوي، دار الطليعة.

(4) المرجع السابق: سوسيولوجيا الغزل العربيّ، ص: 109.

(5) انظر: النظرية البنائية في النقد الأدبيّ، د. صلاح فضل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط3، 1987، ص:455

(6) انظر: الأسطورة والأدب، وليم رايتر، ترجمة صابر سعدون، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1992، ص: 37.

(7) الحياة العاطفية، د. محمد غنيمي هلال، ص: 32/34/35/36

(8) انظر: مقدمة في الشعر العربي، أدونيس، دار العودة، بيروت، ط4، 1984، ص:20، وأيضًا: أثر الترميز الفني في شعر الغزل العذريّ، الإنساق، الأبعاد، المستويات، أسيل محمد ناصر، دار الرضوان، عَمّان 2015، ص: 30

(9) انظر: اتجاهات الغزل العذريّ وسماته الفنية، حافظ عباس وآخرون.

(10) انظر: الحوار عند شعراء الغزل في العصر الأمويّ، ص: 20

(11) انظر: عمر خليفة إدريس، البنية الإيقاعية في شعر البحتريّ، منشورات قاريونس، ط1، 2003، ليبيا، ص:199

(12) عبد القادر زروقي، جماليات التكرار ودينامية المعنى في الخطاب الشعريّ، ، مجلة الأثر، العدد: 25، يونيو 2016ص:134

(13) عبد الكريم الصالحي، تجليات الرمز الصوفي في الديوان الكبير لابن عربي، رسالة ماجستير مخطوطة، كلية الآداب، جامعة المسيلة، الجزائر، 2008، ص:49