مدينة السلطان هيثم.. باكورة "الاستراتيجية العمرانية"

 

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- فشمل برعايته السامية حفل تدشين مدينة السلطان هيثم في قصر البركة العامر يوم الأربعاء الموافق 31 مايو 2023، وذكرت المعلومات التي نشرتها الصحف ووسائل الإعلام أن مساحة المسطحات الخضراء في هذه المدينة تبلغ 2.9 مليون متر مربع؛ أي نحو 10% من المساحة الكلية للمدينة، تُضاف إليها مساحة الحدائق في البيوت والأماكن العامة والأشجار في الشوارع، وتستخدم المدينة الطاقة النظيفة المتجددة، وتضم مركزًا لرعاية الأشخاص ذوي الإعاقة وداراً لكبار السن، كما تم تصميم إعادة تدوير النفايات وتحويلها إلى مصدر للطاقة.

هذه المدينة هي باكورة الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية، التي أعلن عنها معالي الدكتور خلفان بن سعيد الشعيلي وزير الإسكان والتخطيط العمراني، بتاريخ 14 مارس عام 2021، لكي تكون الموجّه الأساس للمستقبل العمراني تطبيقا لرؤية "عمان 2040" التي أشارت إلى إنشاء مدن مرنة ملائمة للعيش والاستجابة لتغيّر المناخ والتخفيف من آثارها، والاستخدام المستدام للموارد وإنتاج الطاقة النظيفة ومصادرها المتجددة، وكفاءة إدارة المياه والنفايات وتعزيز البيئة، وهي أيضًا تنسجم مع التوجهات العالمية التي تفكر بحلول مبتكرة وذكية كأجزاء مهمة من البنية الأساسية للتنمية العمرانية للمدن الجديدة وأحيائها، الأمر الذي يستدعي الاستعانة بالتقنيات الحضرية الذكية، مثل خدمات المياه والنقل والتبريد والطاقة النظيفة وغير ذلك.

تكمن أهمية ذلك إذا عرفنا أن المدن العالمية الحالية تشكل نحو 2% من مساحة العالم، لكنها تستوعب نحو نصف سكانه، ومُرشحة للزيادة لتصل إلى 68% خلال السنوات الثلاثين المقبلة، كما تستهلك نحو 80% من مجموع الطاقة المولدة عالميًا، وتنتج نحو 70% من نفاياته، والنمو السكاني المتواصل فيها أدى إلى اختفاء مساحات خضراء كبيرة مُسببًا مشاكل بيئية عديدة، وأثّر ذلك على نقاوة الهواء والمياه العذبة والموارد الطبيعية. كل ذلك دفع العلماء إلى التفكير بطريقة مختلفة عند التخطيط لمدن المستقبل، يشترك في تخطيطها المهندسون المعماريون وخبراء علوم الاجتماع والنفس وعلم المستقبليات. الحلول المبتكرة والذكية تشكل أجزاء مهمة من البنية الأساسية للمدن الجديدة وأحيائها، واستعمال التقنيات الحضرية الذكية، مثل خدمات المياه والنقل والتبريد والطاقة النظيفة.

ولذا نأمل أن تقوم وزارة الإسكان والتخطيط العمراني بأخذ النقاط التالية في عين الاعتبار عند التخطيط والتنفيذ:

  1. نشر المناطق الخضراء الكثيفة، ليس في منطقة واحدة فحسب، وإنما داخل المدن وأحيائها وحولها وغرس الأشجار داخل البيوت والشوارع، لتقليل نسبة التلوث؛ إذ إنها تعمل كمرشحات فعالة لإزالة الملوثات الضارة من الهواء، وتبريده بنسبة تصل إلى 8%، مما يقلل تكييف الهواء بنسبة تصل إلى 30%، ومن كمية الكهرباء المستعملة والإقلال من التأثير على البيئة وتحقيق وفورات للمستهلك.
  2. التفكير من الآن في تبريد أحياء كاملة عن طريق محطات تبريد مركزية ذات كفاءة عالية "District Cooling" تُنتج المياه المُبرَّدة لتزويد المباني والمنازل والأحياء التجارية والصناعية من خلال شبكة أنابيب معزولة تحت الأرض وإعادة تدويرها مرة أخرى إلى المحطة المركزية. وهذا النوع من التبريد يُقلل الضغط على الشبكة الكهربائية ويحسن الكفاءة ويقلل من تكاليف الوقود والأثر البيئي المضر.
  3. تصميم المدن والأحياء الجديدة باستعمال تقنيات الطاقة المتجددة؛ مثل: الطاقة الشمسية عبر تركيب واستخدام الألواح الشمسية، وتصميم الوحدات السكنية لكي تكون عازلة للحرارة سواء من حيث دخول الحرارة داخلها أو تسرب البرودة خارجها لتوفير استعمال الكهرباء.
  4. تصميم الشوارع بطريقة تجعل المسافة قصيرة بين الحي السكني ومركز الحي عند توجه الساكنين للتبضع أو الحصول على الخدمات المختلفة وإيجاد مسارات للمشاة لتمكين الساكنين من الانتقال مشيًا أو بالدراجات بدلًا من استعمال السيارات، والاستفادة من التراث الثقافي والبيئي والطبيعي لكل مدينة ومنطقة وتوظيفه بالشكل المناسب.
  5. توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية أو الطاقات البديلة وإنارة الشوارع وتزويد كل المرافق المختلفة منها؛ فالتقنيات أصبحت متوفرة لهذا الغرض وتتطور باستمرار.
  6. إعادة دراسة المواصفات المشروطة للبناء، ومراجعة كل القوانين والإجراءات التي صدرت منذ السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث إن بعض المواصفات قد لا تكون ضرورية، وتساهم في ارتفاع تكلفة البناء بطريقة غير مبررة، ويستوجب مقارنتها مع الدول الأخرى، كما إن طرق البناء تطورت مع تطور التكنولوجيا، وهناك الآن تكنولوجيا البناء الحديثة المختلفة عن الطرق التقليدية التي عادة ما تنفذها عمالة مكثفة غير ماهرة، خاصة وأننا ننشد تحسين الجودة، كما إن هذه التكنولوجيا تقوم بخلق بناء أسرع وأقل كلفة من تلك القديمة؛ فالتخطيط العمراني الجيد بحاجة إلى وضع الأُطر والتشريعات الملائمة على المستوى الوطني.
  7. توفير مساحة معقولة من الأرض لإقامة حديقة في كل منزل، إضافة إلى تخصيص مساحات كافية من الأراضي في المناطق السكنية لإقامة الحدائق العامة وملاعب للأطفال مع مستلزماتها، ونوادٍ للرياضة لجميع الفئات، تتناسب والكثافة السكانية لكل منطقة، وتوفير أماكن كافية لمواقف السيارات، وخاصة في الأماكن التجارية، وإيجاد أماكن في كل الأحياء السكنية والتجارية لجمع القمامة، وتطوير نظام نقل عام مستدام يعتمد على السيارات والحافلات الكهربائية المستمدة طاقتها من الطاقات الشمسية والمتجددة النظيفة الأخرى.
  8. إيجاد ألعاب مُحفِّزة على التفكير والمساعدة على إحداث تغيير مرغوب في سلوك الأطفال وفي طرائق تفكيرهم، كالتعلُّم من خلال اللعب، واستخدام الحاسوب، وشبكة الإنترنت، وهي من وسائل تنمية التفكير عند الأطفال دون السادسة من أعمارهم، ولا يقتصر أثره على الجانب النفسي، وإنما يتعداه إلى سائر النواحي الأخرى المُكوَّنة لشخصيته المعرفيَّة والعاطفية والاجتماعيَّة وتنمية الجانب العقلي للطفل، فتنمو قدرته على الكلام الذي يتعلَّمه، وتصبح حصيلته اللغويَّة أكثر غنى.
  9. أن يُراعى عند تخطيط كل منطقة سكنية أو إعادة تأهيل منطقة قديمة اكتفائها ذاتيًا بالحد الأدنى من حيث: وجود منطقة تجارية متكاملة مع عيادات ومستوصف ومطاعم ومسجد ومركز للشرطة ووحدة للإطفاء وبنوك ووحدة لإنجاز المعاملات الحكومية ومكتبة ومطاعم وغير ذلك من الخدمات، وأن لا يسمح ببناء أية خدمات أخرى خارج تلك المنطقة.
  10. على مستوى عُمان، التفكير ببناء مدن بين مجموعة من القرى لجذب الساكنين منها إلى المدينة، وتوفير فرص العمل لهم مع الخدمات الضرورية؛ حيث إنه من غير المجدي اقتصاديًا توفير كل الخدمات وفرص العمل للساكنين في القرى الصغيرة المتناثرة.
  11. إنشاء وحدات لمعالجة المياه وإعادة تدويرها لري الحدائق في المناطق السكنية، وتصميم الشوارع لتتضمن مسارات لممارسة رياضة المشي واستعمال الدراجات.
  12. تركيب كاميرات لمراقبة الشوارع والأماكن العامة والأبنية لتوفير درجة أمان معقولة والتقليل من الجرائم، وربطها بالأجهزة المختصة.
  13. التفكير في تصميم الوحدات السكنية بطريقة تكون مناطق الاستعمال العامة فيها مثل المطابخ مُعرّضة للضوء لأطول فترة مُمكنة للتقليل من استهلاك الطاقة.

وعلى النقيض من بعض التعليقات المُثارة بعدم وجود أي جدوى حقيقية لصرف الأموال الكبيرة على مثل هذه المدن، وأنها نوع من الترف لا داعي له، فإن العكس صحيح تمامًا؛ إذ إن القيمة المُضاعفة مادية ومالية كبيرة وأن عائد الاستثمار سوف ينمو مع مرور الوقت. أما عن التمويل، فمن المفترض أن تبحث الوزارة عن وسائل تمويلية مريحة نسبيًا مع عدد من الجهات المصرفية والمالية.

وأخيرًا.. شكرًا جلالة السلطان- أعزكم الله- والشكر موصول لوزارة الإسكان والتخطيط العمراني، وشكرًا لمعالي الوزير الدكتور خلفان الشعيلي، وفريقه التنفيذي، وجميع من سيساهم في إنجاز هذه الأيقونة العُمانية الجميلة.