الطليعة الشحرية
عقب نشوب الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980، قال زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقًا "إنه من الضروري تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش حرب الخليج الأولى تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس- بيكو".
وبعد هذا التصريح وبتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" بدأ المستشرق البريطاني برنارد لويس- يهودي الديانة، صهيوني الانتماء، أمريكي الجنسية- بوضع مشروعه الشهير بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية كل على حدة ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان ودول الخليج ودول الشمال الأفريقي، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة تشمل الدول المرشحة للتفتيت.
(1)
ماذا يحدث في السودان؟
لا يمكن فصل ما يحدث في السودان عن التدخلات الخارجية، فأمريكا مازالت تبحث عن مكانها لتكون الوريثة الشرعية للدول الاستعمارية، لذا تمت الموافقة على مشروع الدكتور برنارد لويس من قبل الكونجرس الأمريكي في جلسة سرية وصاغ المحافظون الجدد في إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن استراتيجية أمريكا في الشرق الأوسط. يرى لويس أن الحل السليم في التعامل مع المجتمعات العربية والإسلامية بإعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم ويجب على الولايات المتحدة تجنب الأخطاء التي وقعت بها كل من بريطانيا وفرنسا في استعمارهم المنطقة وقال من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم، أو التأثر بانفعالاتهم وردود أفعالهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا "إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا". ويضيف "لا مانع عند إعادة احتلالهم، أي أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية؛ بمعنى السيطرة الكلية، وتضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية، والطائفية، والسلالية والعصبيات القبلية فيها. هكذا انفرط العقد البداية بالعراق واليوم السودان وفي الغد لكم أن تخمنوا.
(2)
من يُقلق أرض السمر؟
وبعد موافقة الكونجرس الأمريكي في عام 1983بالإجماع- ونضع على كلمة الإجماع ألف خط- في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس وتم بعد ذلك تأطير السودان. فقد فرضت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض سلسلة عقوبات اقتصادية على السودان منذ عام 1988 إلى عام 2017، صدرت إما بأوامر تنفيذية من الرئيس أو بتشريعات من الكونجرس الأمريكي، وكانت تلك العقوبات أما لتخلف عن سداد الدين أو بهدف الضغط على هذا البلد المتهم برعاية ما يسمى بالإرهاب.
سلسلة العقوبات بغض النظر عن أسبابها وافقت سياق المخطط الموضوع على الطاولة لإعادة تقسيم المنطقة، فحسب مشروع لويس سينتج عن تقسيم السودان أربع دويلات "النوبة، الشمال السوداني، الجنوب السوداني، دارفور". وبالفعل قد تم تقسيم الجنوب السوداني سابقاً ويتبقى حسب مشروع لويس ثلاث مناطق، لا يتعلق مشروع التقسيم بخطط النفوذ الجيوستراتيجي فقط لاسيما أن السودان بلدٌ غني بمناجم الذهب واليورانيوم والنفط، وهذا ما دفع وزير الخارجية الروسي لافروف لحث طرفي النزاع في السودان إلى التفاوض، مذكراً الأمريكيين بأنهم من قسموا السودان بتدخلاتهم. تبدو تصريحات رصينة من الجانب الروسي وتدفعنا للتساؤل ماذا يفعل طباخ بوتين في السودان؟
(3)
طباخ بوتين
تواجه روسيا اليوم كماً رهيب من العقوبات لم تفرض على أي دولة في التاريخ وذلك بعد اجتياحها أوكرانيا وإحدى تلك العقوبات كانت حظر تداول الذهب الروسي، وهو أحد أهم خطوط الدفاع لمواجهة العقوبات المفروضة عليها. تستطيع موسكو بيع ثروتها وإنقاذ اقتصادها لذا يتوجب على روسيا الدخول في سلسلة معقدة من الإجراءات لبيع الذهب. تمتلك روسيا ما يقارب 150 ألف طن من الذهب على صورة سبائك وتنتج موسكو ما يقارب 2300 طن من الذهب سنويا تتراوح قيمتهم بين 130 إلى 140 مليار دولار. دفعت العقوبات المفروضة على روسيا إلى البحث عن بديل لسلسلة حلقات تجارة الذهب وهي محطات ومواقع الإنتاج والبورصات والأسواق الوسيطة والمشترين النهائيين، والبديل الأول لهذه السلسلة الثلاثية من تجارة الذهب هو إخفاء أصل الذهب مصدره لإخراجه من قائمة العقوبات. الذهب الروسي ينقسم إلى قسمين الأول ما ينتج داخل روسيا والقسم الثاني ينتج خارج روسيا بموجب اتفاقيات مع البلد المضيف مثل شركة ميروي غولد والتي تأسست عام 2017 وتعمل في السودان. شركة ميروي غولد هي فرع من شركة إم-إنفست وذلك بموجب عقد وقع في مدينة شوتسي الروسية بين الرئيس بوتين والرئيس السابق عمر البشر. وشركة إم- إنفست هي فرع من شركة روسية أخرى هي ميجالين وهي فرع من شركة الام concord ويملكها رجل أعمال روسي اسمه يفغيني بريغوجين أو كما يُعرف "طباخ بوتين" وهو المالك لمجموعة فاجنر الروسية للخدمات الأمنية. مجموعة فاجنر هي أشبه بذراع عسكري روسية غير رسمي عابر للحدود تشرف على أنشطة موسكو العسكرية الخارجية من أوكرانيا سوريا ليبيا وصولا إلى السودان ودول أفريقية أخرى.
(4)
توسيع نفوذ إسرائيل
وقبل اندلاع الأزمة وقعت السودان "اتفاقًا إبراهيميًا"، وإن جاز التعبير فهو مشروع إسرائيلي يساهم في توسع نفوذ الكيان المحتل. ومن المثير للاهتمام أن الدول التي ساهمت وشاركت في الاتفاق الإبراهيمي جميعها مطلة على منافذ بحرية تجارية مهمة. تربط تلك المنافذ البحرية بين أقصى نقطة في البحر الأبيض المتوسط وترتبط عبر ممر البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، تعمل إسرائيل على ترسيخ اتفاقيتها الموقعة مع السودان، البلد المطل على البحر الأحمر.
تقوم الحسابات الجيوستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر باعتباره ممرا تجاريا حيوياً يربط البحر الأبيض المتوسط وبالمحيط الهندي ومسرحاً مهما لعمليات القيادة المركزية للجيش الأمريكي وترغب إسرائيل في تتبع هذا المسار الجيوسياسي الجديد " الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، جنوب آسيا" من خلال عقد علاقات جديدة مع دول المنطقة عبر اتفاقيات تطبيع ومداهنة بمشروعها الدين الإبراهيمي.
وهذا ما يفسر ظهور المنتدى الرباعي مع دول تلك المنطقة، والهند وإسرائيل والولايات المتحدة، كما يفسر التقارب بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى مع أذربيجان وتركمانستان. تسعى إسرائيل لعقد اتفاق مع الدول الآسيوية المسلمة، وقد ينتقل الصراع إلى حرب ظل أو وكالة بين إسرائيل وإيران ويكون البحر الأحمر المسرح لذلك الصراع القادم. تهتم إسرائيل بالسودان لأنها تحتاج إلى نقط تمركز تتناسب مع مصالحها الحالية، ولتأمين خطوط الملاحة التجارية وفتح أسواق جديدة لها في أفريقيا وآسيا، لذا فاستقرار السودان بعيداً عن روسيا أمر حيوي أشبه بالحياة والموت للكيان الزائل.
(5)
حروب الوكلاء
تأتي أحداث السودان التي تسارعت بشكل دراماتيكي، ووصلت لحد الانفجار بعد محاولات عديدة لإيجاد صيغة توافقية عبر اتفاق يزيل الازدواجية العسكرية غير منطقية، وفق منطق الجيوش النظامية التي تخضع لقيادة عسكرية موحدة. معضلة السودان بدت في تدخل القوى الدولية والإقليمية لإفشال عملية الانتقال لبناء الدولة حديثة وذلك بعد الربيع العربي، ومع اتساع حروب الوكلاء الوظيفيين لكل من روسيا وأمريكا وإسرائيل التي تسع عبر وكلائها في السودان، عقد الأمر كثيراً ولا يدفع فاتورة تلك الحروب إلا الشعوب المغلوبة تُنهب خيراتها وتُسرق مقدراتها وللسخرية أن تتم عملية النهب والسلب والسرقة بأيدٍ صديقة. وسيتكرر السيناريو ذاته غداً في بلدٍ عربي مسلم آخر وبذات اليد الصديقة.