الفجوة الاستثمارية و"صندوق المستقبل"

 

 

◄ ضرورة صياغة سياسات رصينة لتعظيم المدخلات وزيادة الإنتاج والتصنيع المحلي

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

تُشير الدلائل الإحصائية والتقارير الأممية إلى وجود فجوة استثمارية واضحة في سلطنة عُمان، فبحسب إحصاءات الحسابات القومية الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، فإنَّ الفجوة الاستثمارية الوطنية كبيرة، وتُحسب من خلال طرح إجمالي الادخار القومي الإجمالي من إجمالي التكوين الرأسمالي.

وبلغت هذه الفجوة خلال السنوات الخمس المنصرمة (2017 - 2021) كما يلي: -4.0 مليار ريال (2017)، و-1.1 مليار ريال (2018)، و-2.3 مليار ريال (2019)، و-5.9 مليار ريال (2020)، و-2.7 مليار ريال (2021). وقد يُعزى ذلك من بين أسباب كثيرة إلى انكشاف الاقتصاد العُماني وطبيعة دورة الأنشطة الاقتصادية المحلية التي تسير في اتجاه واحد في جانب المدخلات، كما إن الحصول على العملة الصعبة يتأتى من مصدر رئيسي يتيم نسبيًا هو تصدير النفط والغاز، فيما حصادنا من تصدير بقية السلع والخدمات وأرباح شركاتنا المحلية الخاصة والحكومية العاملة في الخارج مايزال متواضعًا.

وفي المقابل، وفي جانب المخرجات، فإنَّ قنوات خروج الأموال مفتوحة على مصراعيها، في جانب الواردات من السلع والخدمات، وتحويلات العاملين، وأرباح الشركات الأجنبية العاملة وغيرها؛ حيث يتجه أكثر من نصف الاقتصاد خارج دورته المحلية بشكل مباشر. وعليه، يتطلب الأمر صياغة سياسات عامة رصينة، تعمل على تعظيم جوانب المدخلات وزيادة الإنتاج والتصنيع المحلي؛ لتلبية جزء من الطلب المحلي الذي يتم حاليًا عن طريق الاستيراد، وكذلك الدفع نحو التصدير لمعالجة جانبي الدورة الاقتصادية المحلية. ولذلك نجد أن وضع الاقتصاد المحلي في الوقت الراهن يتسم بضعف "تأثير المُضاعِف" للإنفاق وندرة الوظائف وتدني دخولها؛ كونها قائمة على الاستيراد والبيع بقيمة مضافة محدودة، وبالتالي نشوء ضغوط كبيرة على ميزان المدفوعات العُماني.

وفي سياق مماثل، فإن آخر تقرير صادر عن البنك الدولي يُدلل على أن أكبر عائق أمام ممارسة الأعمال في سلطنة عُمان هو الحصول على التمويل اللازم للاستثمارات المطلوبة. وهناك مؤشر آخر في غاية الأهمية هو "مؤشر التعقيد الاقتصادي وفضاء المنتجات" والذي يُظهر أن سلطنة عُمان احتفظت بالمرتبة 73 من بين 128 دولة منذ عام 2001 دون تقدم!! ويُعد هذا المؤشر في غاية الأهمية للمستثمرين؛ حيث يقيس المحتوى المعرفي والتشابكات القطاعية، ويمكن من خلاله إعادة هيكلة نظام الإنتاج لتحسين استغلال الموارد المتاحة نحو تعظيم القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، ويمكن من خلاله أيضًا التوصل إلى قائمة سلع محددة من الممكن التوسع في إنتاجها محليًا وتصديرها، كذلك تحديد أولويات وصناعات محددة أكثر جاهزية من غيرها. وهناك دلائل ومشاهدات يومية متعددة يُلاحظها من يتجول في الأسواق التجارية ويتحدث مع رجال الأعمال والمستثمرين وملاك العقارات بضرورة تحفيز و"تزييت" مفاصِل الاقتصاد العُماني ليتحرك بوتيرة أسرع.

وتمر سلطنة عُمان مع شقيقاتها دول الخليج الأخرى، بمرحلة مهمة تستلزم تحقيق تحول نوعي لبناء اقتصادات مستدامة بعيدة عن النفط، وتبدأ بالشراكة مع القطاع الخاص لتشغيل قاطرات الإنتاج والخدمات في مختلف القطاعات. وبالنسبة لهذا البلد العزيز المترامي الأطراف والزاخر بمختلف المقومات والفرص والموارد؛ فالأمر يحتاج إلى معالجة الكثير من التحديات الاقتصادية والتي من بينها الفجوة الاستثمارية. ولذلك يُخطئ من يقول إنه يمكن البدء في أي مشروع تجاري أو خدمي لتوليد فرص العمل أو إنتاج سلع تُلبي الطلب المحلي او التصدير، دون رأس مال وتمويل واستثمار.

وتأتي الأوامر السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بإقرار صندوق عُمان المستقبل برأس مال يبلغ 2 مليار ريال عُماني، في دلالة واضحة على متابعة جلالته لكل صغيرة وكبيرة تخُص تطوير الاقتصاد وتحسين معيشة المواطنين. ويبقى الأمر في وضع هذه التوجيهات موضع التنفيذ؛ حيث تُشير الشواهد إلى الحاجة المُلحة إلى تحفيز الاقتصاد وبدء مشاريع استثمارية في مختلف القطاعات وفي جميع محافظات عُمان من أقصاها إلى أقصاها. وهنا ننوه إلى أهمية تجنب المعنيين الإجراءات البيروقراطية والحد من مراحل الفرز والتمحيص والتدقيق ووضع خطة متكاملة واضحة المعالم لهذا الصندوق، تشارك فيها جميع الأطراف المعنية، بحيث تحمل مؤشرات واضحة قابلة للقياس تراعي الأبعاد التنموية الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص. وهذا لا يعني توزيع هذه الاستثمارات بشكل عشوائي وتمويل كل الفرص الاستثمارية المطروحة، وإنما الالتزام بالمعايير والتوجهات التي من شأنها ضمان تحقيق هذا الصندوق للدور المنوط به في تحقيق التحولات الهيكلية المنشودة وتوفير فرص العمل للشباب العُماني.

ونذكر هنا بعض المعايير لتمويل الفرص الاستثمارية على سبيل المثال وليس الحصر:

  • أن تسهم في إنتاج منتجات أو تقديم خدمات من شأنها أن تحل محل واردات من السلع والخدمات بما يؤدي إلى الحد من خروج العملة الصعبة (استراتيجية إحلال الواردات).
  • أن تسهم في إنتاج منتجات أو تقديم خدمات تكون موجهة للتصدير للأسواق الخارجية؛ بما يؤدي إلى زيادة تدفق العملة الصعبة إلى الاقتصاد العُماني (استراتيجية تحسين الصادرات).
  • أن تعمل على خلق وتوفير فرص عمل لأبناء وبنات عُمان (استراتيجية التوظيف).
  • أن تستخِدم هذه المشاريع مدخلات إنتاج محلية والعمل على تطويرها لتعظيم القيمة المضافة المحلية.
  • أن تتضمن مكونًا تكنولوجيًا مُتقدمًا.
  • أن تقع ضمن القطاعات الاستراتيجية الخمسة المُتضمَّنة في خطة التنمية العاشرة.
  • أن تخدم هذه المشاريع توجه التنمية الإقليمية في إحدى محافظات عُمان.
  • أن تخدم التوجه الخاص بالطاقة المتجددة في الهيدروجين الأخضر والرياح والطاقة الشمسية والمشاريع المرتبطة بها.
  • أن تساهم في توسيع الحيز المالي للحكومة من خلال إيرادات الصندوق في المستقبل وإن كان هذا معيار ثانوي بمقابل المعيار الاقتصادي والاجتماعي المرصود لهذا الصندوق.

ونظرًا لأننا في المراحل الأولى لتطبيق رؤية المستقبل "عُمان 2040"، والتي سيكون صندوق عُمان المستقبل بمثابة الأوكسجين والوقود المحرك لها، يجب توفير المرونة في الاشتراطات وإشراك الأطراف ذات العلاقة وتسريع الإجراءات لتحقيق التأثير المطلوب في تغيير هيكلة الاقتصاد.

وختامًا نقول إنه وانسجامًا مع التغيرات العالمية وحالات عدم اليقين السائدة والأزمات المتكررة، فإن الاقتصاد العُماني يمتلك ما يحتاجه من عدة وعتاد للانطلاق على مدرج التنمية المستدامة، ويبقى الأمر في وضع الأوامر السامية موضع التنفيذ وتحصين وتعزيز جدار الثقة الداخلي. وبعيدًا عن الكلام العاطفي وللموضوعية نقول إن الشواهد والمؤشرات تظهر أنه باستثناء المالية العامة (نتيجة لأسعار النفط)، فإن وضع الاقتصاد والشركات والقدرة على خلق فرص العمل والدخول والقوة الشرائية والطلب المحلي وتدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية، لا يُلبي الطموح، وأن نجاحاته محدودة. غير أن وهج الإرادة والرغبة لدى الجميع في تحقيق الأفضل لهذا الوطن وتوافر المساحة الكافية أمامنا لتغيير ديناميكية الاقتصاد وتشغيل محركاته بالقطاعات المختلفة بالسرعة والأدوات المطلوبة، فإن الجميع يتطلع إلى تحولات نوعية وابتكار تفرضه المرحلة الراهنة لهذا الوطن العزيز، والتي بدونها لن يتحقق المأمول بإيجاد نموذج اقتصادي قائم على الابتكار والإنتاج والصناعة المحلية كثيفة الاستخدام للتكنولوجيا والموارد البشرية العُمانية.

وأخيرًا.. الجميع يولي المصلحة الوطنية الأهمية الأولى، والتي لن تتحقق دون نظرة شاملة وإدارة واعية لتغيير الذهنيات بالقطاعين العام والخاص، ويستوجب الأمر من متخذي القرار الجسارة والمعرفة العميقة بتشابكية المُتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لاتباع سياسات غير تقليدية من أجل الحصول على النتائج المرجوة.