ماجد المرهون
يَحدث أن نجد لدى كثير من النَّاس تقييماتٍ لغيرهم على شكل فئاتٍ وشرائح وأفعال وهي في الواقع ملامح غير بنيوية ولا تركن إلى دراساتٍ محكَّمةٍ بقدر ما تعتمد على تجارب شخصية خبرها من يقدم تقييمه بين يدي غيره بكل بساطة وبلا ممانعة أو تردد كنوع من الاستشارات النفسية المجانية وفي مواقف عدةٍ معظمها دون طلبٍ ودون مناسبة، ومُعظمنا على كُل حالٍ لديه مثل تلك التقييمات منها ماهو على مستوى الأفراد وقد بُنيت على موقفٍ ظاهري أو ردة فعلٍ لا إرادية أو حتى تصرفٍ بديهي لا يقصد به الإساءة فأرسى سوء الظن دعائم التقييم وشدَّ على أزر تصديقه فدخل به في طور القناعة.
وكذلك على مستوى المؤسسات وخصوصًا الخدمية منها بحسب التجارب التي نخوضها فإننا نبني التقييم انعاكسًا لنتيجتها بين القبول لتحقيق المُبتغى والرفض لأسبابٍ حقيقيةٍ لا افتراء فيها، كما يدخل أحيانًا عنصر المعاملة الفردية والذي لا علاقة له بتوجه المؤسسة في الاعتبار؛ وقد لاحت في عقلي هذه الفكرة صباح يوم خميسٍ قائظٍ حين كنت لاجئًا إلى ظل سورٍ قصير الارتفاع له هيبته المستمدة من الجهة التي يحيطها ويُكِّن له نفس الشعور كل من اتخذه سندًا يلقي عليه بثقل ظهره مؤقتًا بعيدًا عن جدارياته التنبيهية، ولدقائق معدودة فيها يُكافح مكيف السيارة الاحتباس الحراري في داخلها وفي رياض ذلك الظلال المتقاصر تحت قدمي، استدعت مشاعري أجواء الخريف القادم قريبًا وكيف تستحيل هذه المساحات الكالحة المرصوفة بالقار الأسود أكثر برودةً وأدفأ سوادًا وهي مهجورةً تتندى طوال ليلها بالمطر والرذاذ، والأعشاب الطبيعية تكسو جنباتها فيما يشبه حديقة طبيعية أو روضةً ذات خضرة؛ إذ وفد علي رياض الرجل الوافد شديد المراس قوي البنية وقليل الكلام أو كان كذلك قبل عقدين من الزمان عندما طلب مني ثلاجة صغيرةً مُهملة بحسب تقييمي القاصر لها وهي ليست كذلك حسب تقييماته بعيدة المدى، وهو الآن على أعتاب الستين وربما جاوزها ليناطح السبعين ويتشاطر معي شيئًا من الملاذ الظليل كما أنه يتسع للكثير غيرنا ولكن بشكل طولي، وقد أنهك مرض السكر بنيته الجسدية، فيعرفني وأنا لازلت به جاهلا بسبب ماطرأ عليه من تغير واضح في أعراضه الظاهرية ويبدو أنَّ ارتفاع حرارة الجو أو إجراءات المعاملات الورقية التي يمر بها بعض النَّاس يعتبران من محفزات كثرة الكلام المخلوط بالشكوى وشيءٍ من التذمر وهذا حسب اعتقادي الشخصي وينضوي تحت تقييماتي الخاصة المشربة بالخلل لبعدها عن بناءٍ دراسي رصين ولا يجب أن تتسق تجاربي الشخصية ونتائجها مع الجميع أو عليهم.
حالاتٍ قليلة يرجع فيها الوافد إلى بلده بلا عودة وخصوصًا من أصحاب المهن والوظائف الصغيرة، حيث يأتي أحدهم وهو صغير في السن يحمل على عاتقه همومًا كبيرةً ماضية وفوقها أحلام أكبر قادمةٌ لبناء حياته والتخطيط لمستقبله المجهول مع عزيمةٍ تشق الصخر، وهذا هاجس فطري داخل كل إنسان وهو من مراقي الطموح المنشود في الجانب المادي الدنيوي وتختلف طرق تحقيقه من شخص لآخر بحسب ميوله وتوجهاته ومبادئه وتكون أكثر عمقًا لمن خبر تجارب قاسية مع الفقر والجوع، ولن يستيقن هذه المشاعر والأحاسيس من لم يشحذ نفسه طول مسغبةٍ وسنون متربةٍ وليالٍ مخمصة.
ساورني ذلك الشعور في إحدى تقييماتي السطحية إبان النزول مهرولًا من الدور الثالث لنفس المبنى ذي الجدار المعمور والسور المشكور، وعلى عتبات درجاته الوسطى يفترش وافدان أرضيته الرخامية الفاخرة ليقتسمان شطيرةً صغيرة؛ إذ تسقط كل الاعتبارات عندما يبلغ الجوع مبلغه بما فيها النظرات التقييمية التي يرمقها بهم الصاعد والهابط، وربما تكون هذه أيضًا إحدى خرافاتي التحليلية ومن غير الضرورة أن تصدق، وإن صدقت وكانت صحيحة فلا ضير منها حيث إشارتي هنا تلميحية اتخذت فئةً وافدة بل باتت شريحة في المجتمع قادمةٌ إلينا فيما يشبه الملاذ الآمن وإن كان مؤقتًا أو مرحليًا ولا يبدو لي كذلك، وقد يطول بها المقام بحكم معرفتنا بالظروف التي مروا بها، كما يتوجب علي التنويه لضرورة الفصل بين الهجرة وأسبابها كالنزوح والفرار والهروب التسلل غير الشرعي وبين القدوم للعمل تحت تعدد مسمياته المعترف قانونًا بها في نوع من التبسيط ولذلك تتزايد أعدادهم بشكلٍ ملحوظ يستدعي لحظة تأمل.
إن تهويماتي التقييمية اللاواعية تزداد مع فرط النشاط الذهني المُتفكر في إنهاء المعاملة بين يدي والخروج في أسرع وقتٍ ممكن بأقل التكاليف، حتى يتسنى لي استثمار الوقت والانتقال إلى مهمةٍ أخرى أو أخلد للراحة مع كوب الشاي الشهير المصاحب لحرارة الطقس ولا أعلم السر في ذلك، لكن مع حالة التوتر اللاإرادية المصاحبة للأماكن المزدحمة بالناس والمراجعين من مختلف الفئات والشرائح تجعل مستثمر الوقت في حيرة من أمره ومن الخروج سريعًا فكرةً سريالية حالمة تذبحها قصاصة ورقٍ صغيرة حملت في طيها رقم الانتظار الطويل للدور البعيد.
بجدارة واقتدار يقصر ظلال النهار المعاكس للجدار دون قدرة لمنعه وليت السور كان أعلى ارتفاعًا بمترٍ إضافي حتى ننعم تحت جناحه، مع تمتمات لا تتوقف من رياض الوافد المسكين المتقرفص بجانبي وهو يطالع هاتفه القديم متسائلاً عن مفهوم وفائدة الخدمات الإلكترونية، وقد رضخ رأس أوراقه بنصف حجر ليصرعها على الأرض مستغلاً أعراض الوزن والجاذبية ضد الريح الحصباء دون إدراك أيًا من تلك المفاهيم، وصراع الضدين الشفيف محتدمٌ داخل مقصورة سيارتي المستأجرة في يأس التبريد المناكف للحرارة المرتفعة والتي تكتنفنا جميعًا؛ لماذا لم يزرعوا هنا أشجارًا منذ افتتاح هذا المكان؟! لو فعلوا لكان الناس اليوم مستظلين بها ولكن ربما نسوا ذلك- من باب حسن الظن- فلماذا لا ينصبون مظلاتٍ رأفة بنا؟! هل نسوا ذلك أيضًا- ساخرًا-؟! وإن نسوه فبإمكانهم فعله الآن فهي لا تتطلب وقتًا طويلًا لتنمو كالأشجار؛ هكذا فهمت من زمزمات رياض وتساؤلاته إذ يبدو لي أنه من المراجعين المخلصين لهذا المكان ومن عشاق البرودة التي خبِرها جيدًا في صباه وقد أوقعت تقييمي لهذا الأمر منذ زمن الثلاجة التي أعاد بعثها للحياة وكنت أحسبها من سقط المتاع.
رياض هل لديك سيارة؟ سؤال قصير وصريح وجهته له وستكفيني كلمة واحدة معلومة للجواب لكنه قال: كلا فأنا لم أتعلم قيادة السيارة ولكن لدي دراجة نارية وهي تفي بالغرض وعمومًا لم أعد أقوى على العمل كما ترى وابني الأول والثاني معي هنا وهما يقومان بالدور عني؛ لقد أورث رياض أبناءه سر المهنة وربما أحفاده ولا شك أن الشابين قد أدخلا عليها تحديثاتٍ وتطوير مستثمرين للعلاقات القديمة لأبيهم، كما أعرب عن راحة إقامته وحبه وامتنانه لتعاون الأهالي وطيب معشرهم وكرمهم أحيانًا، وطبعًا مع بعض الاستثناءات حسب تجاربه الشخصية وتقييماته مع افتراضي لقابلية التزييف حيث لم أتمكن من إطلاق العنان لحسن ظني كاملًا، ويشير إلى امرأةٍ مع ثلاث من بناتها مؤكدًا لي حسب رؤيته أنهم لا يرغبون بالمغادرة وترك هذا المكان وأنهم سيصنعون المستحيل للبقاء، وأن البنات الثلاث قد طاب لهن المقام والعيش في هذا البلد، وبطبيعة الحال سيبقى الانتماء الوطني والعاطفي لمسقط الرأس سيدًا للمشاعر، ولذلك هم يعملون بتفانٍ منقطع النظير ويحولون كل ما يكتسبونه من أموالٍ ويدخرونه إلى الوطن الأم ولا ينفقون منها إلا قليلًا مما يأكلون ويلبسون، ويقينهم الحتمي أن مآلهم إلى هناك في نهاية المطاف سواءً عادوا سريعًا وهو احتمال ضعيف أو شيوخًا وعجائز بعد حين.
إن المادية الصرفة تؤمن بالأعراض فقط وتنكر تمام الإنكار لما ورائها وتكفر بالجوهر وإن وصلنا به إلى مداه الأبعد وهو الروح الإنسانية الخالدة التي لا تفنى فإن المنطق العقلي الوصفي يرفض ذلك وبلاشك فإن التحليل التقييمي المعتمد على المظهر والأعراض سينفي بالضرورة الغيبيات والمعتقدات والتي لا يوضع لها موضع في التقييم وتلك إذًا حسبة خاسرة تحيد بشدة عن كمال حسن الظن وتعتمد على المنطق الوصفي في الأفعال والتصرفات.
وسوف أتجاوز الحديث عن التأثير الثقافي على المجتمعات جراء تعددية الجنسيات فقد أشار له الكثير من الخبراء والمهتمين كما أشرت له في حديثٍ سابق، وسأبقى في إطار المقارنات والتقييمات الفردية أو الجماعية للبشر باستثناء السمات العامة، وذلك من حيث التجارب الشخصية والتي تختلف مقوماتها ونتائجها من شخص لآخر والتي غالبًا ما تستند أحكامها غير النزيهة على الأعراض الظاهرة في إغفالٍ شبه تامٍ للجوهر المجهول أصلاً، إذ لم يعد في عصرنا هذا مجال لتقييم الناس ووصمهم بتشبيهات قديمة ومستهلكة درجنا على استخدامها، مثل القطعان والعامة والبسطاء، فمعظم الناس اليوم يحتكمون إلى قرارهم ويتحكمون به في حرية التصرف ويعلمون يقينًا العواقب والتبعات، ومن يصفهم بذلك واقع في سوء فهم نفسه بالمقام الأول كونه المختلف الأوحد والمتفرد بالفهم دون البقية وقد يكون العكس وهو لا يعلم.