د. محمد بن عوض المشيخي **
تعيش تركيا في هذه الأيام استقطابًا محليًا وإقليميًا ودوليًا واسع النطاق، وذلك مع انطلاق الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والمقرر لها اليوم الأحد، بين الرئيس الحالي المُنتهية ولايته رجب طيب أردوغان ومنافسه كمال كليتشدار أوغلو مرشح أحزاب المعارضة التركية.
يعود هذا الاستقطاب الحاد إلى وجود معارضة غربية لعودة أردوغان لحكم تركيا في هذه المرحلة التي تعد حساسة لمستقبل العالم؛ لكون أن تركيا ومنذ عقدين من الزمن أصبحت دولة كبرى تقف في وجه أمريكا وروسيا على حد سواء؛ فالفيتو التركي عرقل انضمام السويد إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، فهي تملك ثاني أكبر جيش في الناتو بعد أمريكا، كما إن دور تركيا في الأزمة الأوكرانية المشتعلة حاليًا قد أصبح محوريًا ورئيسيًا، من خلال اتفاقيات تصدير الحبوب إلى العالم؛ وكذلك بيع المسيرات التركية المعروفة باسم "بيرقدار (TB2)" إلى أوكرانيا، وهي المسيرات تعد الأفضل في العالم، متجاوزة بذلك جميع المسيرات الأخرى. وقد حسمت هذه المسيرات معركة طرابلس قبل عدة سنوات لصالح الحكومة المعترف بها دوليًا في ذلك الوقت في ليبيا.
أما على الصعيد المحلي في الجمهورية التركية، فهناك قاعدة عريضة من الأتراك يميلون إلى التغيير الذي يُعد سنة الحياة وأسلوبًا متبعًا في مختلف ديمقراطيات العالم؛ فحزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان يتولى السلطة منذ أكثر من 20 سنة، وبالطبع حقق إنجازات عظيمة، لكن سقط أيضًا في إخفاقات بالعديد من المجالات الاقتصادية، خاصة تسببه في انخفاض قيمة الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها خلال السنوات الماضية، كما واصل التضخم ارتفاعه بمستويات قياسية خلال العام المنصرم. علاوة على أنَّ سياسة العصا والجزرة التي اتبعها أردوغان مع دول الإقليم، لم تكن سهلة، خاصة مع بعض دول الخليج، التي دعت مواطنيها قبل عدة سنوات إلى مقاطعة البضائع التركية وسحب الاستثمارات الخليجية من هناك؛ لا سيما وأن تركيا كانت متهمة بمساندة ثورات "الربيع العربي" التي شكلت جماعة الإخوان المسلمين وأحزابها، وقودًا لها في معظم الدول العربية، خاصة مصر وليبيا والسودان وسوريا. لكن سرعان ما قدم الطرفان التنازلات من أجل تحقيق المصالح الاقتصادية والحصول على الأموال الضرورية لإنقاذ الاقتصاد التركي الذي عانى من أضرار كثيرة، حتى ولو كانت هذه التنازلات على حساب المبادئ المعلنة! فهناك من يتهم التيارات والأحزاب التي تتبنى ما يعرف بـ"الإسلام السياسي" بالانحناء أمام أصحاب النفوذ والسلطة، ما دامت هناك مكاسب مالية، وأن ما يُقال في العلن يختلف عمّا يُقال خلف كواليس السياسة والأبواب المغلقة.
لا شك أن حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، قد غيّر المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تركيا، فقد كانت تركيا تقبع في ذيل قائمة دول العالم المتخلفة اقتصاديًا، بسبب الفساد الإداري والمالي وهيمنة الدولة العميقة على الساحة التركية؛ حيث تشارك الجنرالات والساسّة في نهب ثروات البلد لعقود طويلة، إلا أنه مع وصول رجب طيب أردوغان أصبحت تركيا في قائمة أفضل 20 دولة في العالم والمعروفة باسم "مجموعة العشرين"؛ بل نجد تركيا اليوم تحتل المركز الـ13 كأفضل اقتصاد في العالم. وباتت تركيا دولة صناعية كبرى تصنع الطائرات الحربية والغوّاصات والسفن الحربية والدبابات والسيارات الكهربائية، فضلًا عن الصناعات الأخرى المدنية. أما دخلها السنوي من بيع وتصدير المعدات العسكرية فيُقدّر ببضع مليارات من الدولارات الأمريكية.
هناك من يشبّه كبرياء وطموح رجب طيب أردوغان وكأنه امتداد لسلاطين الدولة العثمانية التي قضى عليها مؤسس الجمهورية مصطفى أتاتورك عام 1923، مُنهيًا بذلك دولة "الخلافة الإسلامية" التي أتهمها بأنها كانت السبب وراء تخلف تركيا، ومن ثم هزيمتها في الحرب العالمية الأولى؛ فكان مشروع "أبو الأتراك" كما يُطلق عليه، يتمثل في محاربة الإسلام السياسي ومحاولة اللحاق بأوروبا العلمانية.
ومن المفارقات العجيبة أن أوروبا والغرب بشكل عام لم يعترف بتركيا العلمانية وظل متوجسًا منها، ولم تُقبل تركيا لتكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، انطلاقًا من معرفتهم بإيمان معظم الأتراك بالإسلام كعقيدة ومنهج حياة. وبالفعل كان ذلك التوقع صحيحًا، فقد سبق أردوغان لبعث الشعب التركي المسلم وربطه بالدين الحنيف، أولُ رئيس وزراء منتخب بشكل حقيقي، وهو الشهيد عدنان مندريس الذي شنقه- ظلمًا- جنرلات تركيا، بتهمة التآمر على الدولة العلمانية التركية، ومحاولة الرجوع بالشعب التركي إلى رحاب الإسلام. أما الشخصية الثانية والتي كانت بمثابة الأب الروحي لأردوغان فهو نجم الدين أربكان الذي تولى رئاسة الحكومة التركية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وكلاهما كانا عضوين في حزب الرفاه المعروف بتوجهاته الإسلامية.
في الختام.. تفصلنا عن نتائج انتخابات الرئاسة التركية ساعات قليلة؛ وكل المؤشرات تدل على فوز الرئيس الحالي أردوغان بفترة ولاية أخرى، وفي كل الأحوال وفي حال فوز تحالف المعارضة، فتركيا بلا مُنازع عملاق القرن الحادي والعشرين؛ لأنَّ قطارها انطلق إلى مصاف الدول الكبرى بلا رجعة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري