ثقافة العقوبات والمكافآت!

 

د. صالح الفهدي

 

أَخبرني موظَّف في إحدى مؤسسات القطاع الخاص، يقول: في صبيحة أول يوم من دوامنا في إحدى المؤسسات عُرضَ علينا قانون العقوبات، فسألتهم: أينَ هو قانون المكافآت؟ هذا يذكرِّني بأَول يوم لابني في السنة الأخيرة للدبلوم العام حين جاء مُحبَطًا من كلام معلِّمه الذي رسم لهم صورة قاتمة، موشَّحة بالسَّواد، مُتخمة بالتشاؤم لسنة يفترضُ أن تحدِّد فيها اتجاهاتهم، فكان يحدِّثهم عن الرسوب، والفشلِ، والصعوبات، بدلَ أن يحفِّزهم، ويشِّجعهم ويقوِّي هِممهم، ويعزز ثقتهم بأنفسهم..! الأمر الذي ينطبق على مجالات أُخرى لا تصدرُ عنها إلا مواد العقوبات أكثر من مواد المكافآت!.

البيوت هي الأُخرى تطغى عليها ثقافة العقوبات أكثر من المكافآت، فكلمات الزجر والنهر أكثر من كلمات التشجيع والثناء حتى إذا كبر الابن احتشدت الكلمات السلبية فيه أكثر بكثير عن الكلمات الإيجابية؛  مما يجعل العلاقة في مثل هذه البيوت باردة، وجافَّة، وغير آمنة، الأمر الذي يسبب اضطرابًا نفسيًا للأَبناء، يفقدون على إثره الثقة بأنفسهم، والتقدير الشخصي، والنظرة الإيجابية إلى ذواتهم..!

ثقافة العقوبات متأصِّلة فينا حتى فقدنا الكفَّة الأُخرى من ميزان العدل والإِنصاف وهي المكافآت التي يُفترضُ أن ترجح على ثقافة العقوبات بل وتتقدمها..! في حين أننا لم نلتفت إلى أنَّ المكافآت مقدَّمة في دستور الله العظيم، وكتابه الكريم على العقوبات، وتلك المنهجية السامية التي أرسل الله نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، فالحق سبحانه وتعالى يقول: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ" (البقرة: 119)، ويقول سبحانه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"(سبأ: 28)، ويقول تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّة إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ" (فاطر: 24)، ويقول في سورة فُصِّلت: "بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ" (فصلت: 4). هذه الآيات الكريمات توضِّح أن الله قد أرسل نبيَّه بالبُشرى أي بالمكافات قبل الإنذار بالعقوبات، ولكننا للأسف الشديد غفلنا عن مثل هذه الحكم العظيم وهي أساس المنهج الإيماني الذي يُفترضُ أن تظهر آثاره على واقعنا..!

كلتا الأداتان (العقوبات والمكافآت) مهمتان لتقويم وتعزيز سلوك الإنسان، ولكن أن تطغى أداة على أُخرى فهذا يدلُّ على خلل ما في المنهجية التي تطبق للتعامل مع الإِنسان في كل بيت ومؤسسة وميدان؛ أما النظرة الأعمق لأثر العقوبات والمكافآت، فإن العقوبة أثرها قصير، في حين أن المكافآت لها أثر بعيد، والإِنسان يميلُ إلى المكافآت أكثر من العقوبات لاستقامته، وهي مكافآت ليس أساسها المادة وإن كانت محفزة، ولكن الأكثر تحفيزًا وأثرًا هو الإحترام والتقدير والثناء والتعزيز.

وإذا تتبعنا مصدر الميلِ إلى العقوبات  وتفضيلها على المكافآت في المجتمع نجدُ أن الفكرة في أساسها تعود إلى ذلك الوازع السُّلطوي الذي يدفعُ الإنسان إلى  ممارسة الإستبداد على غيره، وتعاليه في استخدام السلطة في حين أنه- حين يكون في موضع قوة وهيمنة- يرى المكافأة وكأنَّها ممالأة وتحبُّب إلى المكافيء أكثر مما يراه تحفيزًا لمعنوياته، وتعزيزًا لقدراته، فتصبحُ العقوبة عنده أداة استحكام وتسلُّط وسيطرة، في حين تصبح المكافأة أداة وَهَن وتضعيف لتلك المكانة العالية، والقوة الفخمة. 

وإذا كانت العقوبات والمكافآت ضروريتان فإنهما يجب أن لا يخضعا لمعايير شخصية، ولا يكونان صادرتان عن أهواء وأمزجة بل يجب أن تكون المعايير وفق أداء معيِّن، وإنجاز محدَّد، فلا مبالغة في العقوبة، ولا محاباة في المكافأة، وإنما يُتحرَّى العدلُ في التعامل مع هاتين الأداتين الفاعلتين في توجيه سلوكيات الإِنسان، وتصويب أخلاقياته.

من هُنا.. علينا كمجتمع أن نغيِّر ثقافتنا التي ترجِّح الميل إلى العقوبات أكثر من المكافآت، لتصبح المكافآت هي الأداة الأقوى فاعليةً وأثرًا في نفسية الإنسان من العقوبات التي قد تحطِّمه وتحبطُ نفسيته، فالكلمة هي رأسُ المكافأة قبل أن يكون المال، إذ أنها كزيت الوقود، وكطاقة الدفع للإنسان، فالمديرُ الذي يكافأُ موظفه بتحفيزه يتوقَّعُ منه حُسن الأداء، أم الذي يعاقبُ موظفه حين يُخطيء ولا يكافئه حين يُحسن فلن يتوقع من موظفه أن يتقدم في أدائه، ويتطور في عمله، والأَب الذي يشيدُ بإبنه حينما يصدرُ منه سلوكٌ حميد، أو قولٌ سديد فإنه يتوقع من ابنه أن يترسَّم هذا المنهج القويم الذي يلاقي المديح والإِشادة من والده، على نقيض الأب الذي يزجر وينهر ويصرخ فإِنه لا يمكن أن يتوقع صلاحًا من إبنه بل انفلاتًا من ربقة الهيمنة والتسلط حينما يجد لذلك من سبيل.

ثقافة العقوبة مهمة، لكن ثقافة المكافأة أهم منها وأعظم أثرًا، فالله أولَ ما خلق الإِنسان قدَّم له أعظم مكافأة فأمر الملائكة بالسجود للإنسان ممثلًا في أبيه آدم: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ" (البقرة: 34)، وخلقه مكرَّمًا في خَلقهِ وخُلقه "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإِسراء: 70)، والله سبحانهُ لا يقدِّمُ العقوبة إلا بعد بيان الحجة والحقيقة للناس "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإِسراء: 15)، كما إنه عظَّم المكافأة على العمل الصالح في حين قلَّلها على العمل السيء "مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُون" (الأنعام: 160).

هذا دستورنا العظيم يعظِّم المكافآت في حين أن ثقافتنا تعظَّمُ العقوبات وتجعلها وسيلة للترهيب، متجاهلين الآثار السلبية فالموظف يعادي مسؤوله الذي لا يعرف غير العقوبة، والإبن يجافي والده الذي لا يعرف غير الزجر والنهر، والطالب لا يحب المعلم الذي يمعن في العقوبة، أما المكافآت فقد رأينا أثرها البعيد على المكافئين، إنتاجًا وعطاءً وإخلاصًا ورضا وجهدًا.