عادت سوريا.. أهلًا وسهلًا!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"الحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه، باطلٌ في شرع السياسة" تشي جيفارا.

*********

كثير من الناس يتحدث عن السياسة بعاطفة، والحقيقة أنها فن الممكن، وأخذ وعطاء، على طريقة "هات وخذ"، وأوراق ضغط، وعلاقات متشعبة، وظروف تتغير أحيانًا بالثانية والدقيقة، مصالح شعوب قد تتكسر أمامها مبادئ وأخلاقيات؛ بل ومعاهدات واتفاقيات، دعْ عنك العاطفة وتحدث بمنطق المصلحة والمنفعة، وكما أسلفت منطق "هات وخذ"، في العلاقات الدولية ما أكثر ما صدم العالم بتغيرات جذرية في مواقف بعض الدول في كثير من الأحداث، لا تستغرب؛ فالسياسة أشبه بالعواصف والأنواء المناخية، تشتد أحيانًا، وتهدأ وتيرتها أحايين كثيرة، وفي كل ذلك فتش يا صديقي عن المصلحة، ولننسى معًا حديث العاطفة والبكاء والضحك!

قبل سنوات كانت الأزمة والحرب في سوريا في عامها الثالث تقريبًا، كنت جالسًا مع أحد الإخوة السوريين وكان الحوار حول احتمالية حل سياسي سلمي للوضع وتوقف العمليات العسكرية المشتدة وقتذاك، وكان متشددًا وواثقًا بقرب سقوط نظام الحكم، وأن ذلك سيحدث، وكذا سيحصل و"سنحصل على حقوقنا ويسقط حكم كذا"، وآخر كلماته كانت أن الشعب والوضع وصل إلى نقطة اللاعودة، وأن المنتظر فقط هو ساعة سقوط النظام!

لن أقول ما قلته ذاك الوقت، ليس مهمًا، إنما تفكرت في حال الذي يعيش بعيدًا بآلاف الأميال وينظر ويتوعد وهو لا يفهم فقه الواقع السياسي، لا أعلم كيف يفكر بعض الناس، رغم وجود جميع المنصات والمواقع التي تتيح مشاهدة أفضل وأنقى للوضع عامة في سوريا وقتذاك، كانت العاطفة هي المُسيِّرة لآراء الناس، ولا ننسى النفخ الذي هو كنافخ الكير في عقول الناس، ولا أنسى دور بعض الدول الإقليمية التي تزعمت محاربة النظام بالمال والإعلام والدعم، وبالأخير لم تتضرر سوى سوريا، ولم يعاني الويل إلا أهلنا في سوريا.

لا شك أنه في تلك الأيام كانت زوابع "الربيع العربي" هي المسيطرة على عقول الناس؛ بل إن هناك من كان يتوقع وبثقة سقوط جميع دول "بني يعرب" مُشبهًا المشهد بقطار التغيير السريع، ربما تأثر بسقوط أنظمة 4 دول متوالية، لكني لا أفهم كيف أيّد سقوط أنظمة كانت تقدم الحد الأدنى- على الأقل- للأمن والأمان في بلدها، وانساق وراء الشعارات الشعبوية التي أرهقت الأمور، ودمرت الزرع والضرع.

حتى نضع النقاط على الحروف، علينا أن نتفق على حق أي شعب في حياة طبيعية آمنة، هذا لا نقاش حوله، كذلك أهمية وجود نظام حكم شرعي مستقر الأوتاد، يقدم خدمات الدولة المفترضة لشعبها، ويدير البلاد بالشكل المطلوب، وله علاقات جيرة طبيعية مع دول الإقليم. هنا سأذهب أكثر وأسألك ما الذي يريده أي مواطن في أي دولة؟ ببساطة: أمن واقتصاد، لديه سكن، وصباحًا يذهب الأبناء للمدرسة، ولديه عمل يأخذ منه الدخل المادي، وتتوافر له خدمات صحية معقولة، وحرية التنقل. هل هناك شيء أكثر؟ ممكن، لكن ليس بعيدًا عما ذكرت.

سؤال آخر، وبصراحة: هل من حق المواطن اختيار نظام الحكم الذي يحكمه؟ الجواب: نعم، ولا! نعم في الديمقراطيات الحقيقية، و"لا" كبيرة في الدول التي لم تتأهل سياسيًا حتى الآن، ولا عيب في ذلك، فلكل دولة ظروفها غير المتفقة أحيانًا مع وضع أي دولة أخرى، فما يمكن حصولة في الأرجنتين مثلًا يستحيل حدوثة في تنزانيا.

هذه طبيعة الدول وهذه متعرجات وتموّجات السياسة، ودخول العاطفة أمر مدمر، السياسة منذ عهدها الأول تُبنى على المصالح، والمصالح فقط، صدقني يا صديقي، وأترك عنك مبادئ وأخلاقيات عفا عنها الزمن، لا أصور لك الصورة بسواد قاتم، لكن أنصحك وأصحي عقلك المنهمك بضغط أزرار الريموت كنترول متنقلًا بين قنوات فضائية تبث وتقدم ما يخدم مصالحها، ومصالحها فقط، فهمت ولا أفهمك زيادة؟!

لنرجع للواقع الحالي، بدأت منذ فترة خطوات علنية لعودة النظام الحاكم في سوريا لمقعده السابق في جامعة الدول العربية، وهنا أركز على كلمة  علنية؛ لأنه في الواقع لم تنقطع العلاقات بشكل او آخر بين سوريا وكثير من الدول، وفي القمة العربية التي عُقدت بمدينة جدة في المملكة العربية السعودية، كان أول ظهور للرئيس بشار الأسد بقمة عربية، بعد غياب طويل، ووسط ترحاب وعناق. هكذا السياسة، فن الممكن وإدارة العلاقات بما هو مناسب، والتعامل مع الواقع لا مع الأحلام، وبعد فترة سنرى توقيع اتفاقيات المشاركة في إعادة الإعمار في سوريا، وسيزدحم سوق الحميدية بعاصمة الأمويين بالسياح من كل حدب وصوب.

هكذا السياسة يا صديقي لا بقاء إلا للأقوى، للمستعد دائمًا، ولا تنسى تبلغ السلام على محل الخطاط الذي يكتب الشعارات، ليرفعها السذج، وينادي بها الثوريون، ويقطف ثمارها الدهاة!

عاد الرئيس بشار الأسد لتبوؤ مقعد الجمهورية العربية السورية في القمة العربية، وانتهت فترة أتمنى أن يتعلم منها الجميع، والتاريخ معلومات وعبر ومواعظ، ومن لا يُعلمه التاريخ لا تَعلَمه الناس، ولا شك أن بصمات الاتفاق السعودي الإيراني الأخير بارزة ولا تخطئها العين، وقال الأولون في ماضي الزمان: "قدم السبت تلقى الأحد قدامك".

أتمنى لسوريا الحالية والمستقبلية المصالحة وعودة الحياة الطبيعية وفق أسس تحفظ حقوق الجميع، وتسيِّر البلاد نحو تنمية حقيقية، مكللة بالأمن والاطمئنان والاستقرار؛ فاستقرار هذا البلد العربي العزيز مهم جدًا للمنظومة السياسية الإقليمية، وقد آن الأوان لعودة ملايين السوريين في المهجر لبلدهم آمنين كريمين.. حفظ الله سوريا من كل شر.