"أتنفس تحت الماء".. إبحار في العيش المكبوت

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

قرأتُ رواية "أتنفّس تحت الماء" للكاتبة المُميزة الطليعة الشحرية الصادرة من دار فراديس للنشر والتوزيع لعام 2023، كنت واثقة من أنها ستطرق باباً محكم الإغلاق يعتبر البعض التطرق إليه كالأمر المُحْدث؛ وذلك للتّوهم المفرط بالمثالية الأسرية والمجتمعية وتجاهل الحقائق وجعلها تحت طبقة عالية الجودة من الكونسلر الفرنسي.

صورة الغلاف والمقطع الصوتي المكون من حرفين بمقطع صوتي طويل (طَقْ) مكررا أربع مرات في بداية الصفحة الأولى من الفصل الأول يؤكدان لي صدق ظنّي.  

طق..

طق.. طق.. طق

بداية فنية غير معتادة، (طَقْ) صوت يخفي وراءه أمرا ما!

أتنفس تحت الماء.jpg
 

هذا بحد ذاته كفيل بأن يجعلني أتمسّك بقراءة العمل إلى نهايته، وأقول في نفسي ماذا عندها الطلعية هذه المرة؟ أهي سلسلة " الشريد الأبدي" مرة أخرى!

أوحت لي صورة الغلاف بأنه ثمة صوت مكبوت يُحاول إيصال صوته دون جدوى؛  فما هو وهل يمكن للصوت (طَقْ) أن يفصح عنه!

تسدل الكاتبة الستار عن رحلة الإبحار في العيش المكبوت بطريقة فريدة من السرد والتشويق وفق شخوصها التي يبدو أنها اختارتهم بدقة؛ لتفصح عن أن الإبحار معهم إبحار من نوع آخر؛ إبحار بلا قوارب وبلا سترة نجاة، إبحار السفر المجهول بلا تذاكر وبلا اعتراف بحق الوجود، سفينة لا تتجه للوجهات السياحية، رحلة لا تعترف أو تهتم بالهوية، تأخذ المسافر إلى عوالم الظلم والزّيف والنسيان وتنتهي به إلى أن يكون نسيا منسيا؛ ثم تعمل على  طمس الحقيقة سواء كان طريق الرحلة في بحر صلالة أو في بحر مسقط؛ فالبحر هو ذاته أيّا كان مكانه لا سلطة للجغرافيا عليه!

إبحار يقوم فيه الإنسان على نزع إنسانيته ومصداقيته ويبحر في بحر الظلم؛ لسبب أن هناك صوت ما يجب أن يستخدم سلطته عليه ليقصيه ويُجهز عليه ثم يبقيه بعيدا في الخفاء، لسبب أنه يرى وجوب كتم ذلك الصوت لأيّ سبب كان، هناك من يفتقد في الواقع إلى أبسط درجات الإنسانية، أدواته حادة وأيديه طائلة، يلبس ثوب الجريرة في الظلام وثوب الطهر تحت الشمس، يسعى لسرقة الأعمار لغاية نفسية في نفسه!

تطرقت الكاتبة إلى المتاعب التي مرّ بها بعض شخوص الرواية الذين آلمتهم رحلة التنفس المائي، والمآل الذي آلوا إليه في مشهد الدم البارد بين أنياب الحقائق الخرساء؛ ربما من قرأ سلسلة الشريد الأبدي لن يستغرب إصرار السرد على البوح بما أبكم صوت الحقيقة، والمتابع للمقالات التي تكتبها الكاتبة لن يستغرب الثقافة والهموم السياسية والاجتماعية التي تبثها الرواية للعودة بذاكرة القارئ إلى أوقات زمنية ماضية لها أثرها العميق علينا كعرب.

تفصح الرواية عن واقع يأبى الكثير فيه حتى السماح لأنفسهم بالتذكر أو للضمير بالتأنيب؛ فالوقوع في الخطيئة لديهم أمر مستنفر بالغ الأهمية يخدم أفكارهم الدنيئة أو مصالحهم الشخصية  أو لمجرد الكره والبغض والاختلاف.

استطاعت الكاتبة أن تنقل تلك الصورة الغائبة والتي لا يتقبلها مجتمعنا، وإن سمع بحدوثها؛ فهو سريع يعمل على فرمتتها وتحديث نفسه للتخلص منها، والتصفيق لزيف المثالية اللّامع، وهذا ما يفصح عنه الفصل الأخير من الرواية المعنون ب "لا أتنفس" فهو الفصل الذي اختلفت فيه عملية التنفس؛ فبعد أن كانت في حالة من الضيق وصل بها الحال إلى عدم التنفس!

لا أريد أن أحرق على القراء متعة القراءة؛ كون العمل مازال جديدا؛ وسأكتفي بطرح العبارة التي اقتبستها دار النشر من الرواية " هل ياترى.. أيختلف بحر صلالة عن بحر مسقط؟

مياه الله واحدة؛ ولكن كيف تغيرت مشاعري تجاه البحر لمجرد سفري من بيت الأهل إلى محراب العلم؟

أكثر من ألف كيلومتر قطعتها عبر البر؛ للانتقال من واحة طفولتي ومراهقتي في صلالة إلى دوّمة دراستي وصناعة مستقبلي بالجامعة في قلب مسقط العامرة، لكن يبدو أن مسافة أطول قطعتها بين روحي هناك وبقاياي هنا!

هكذا قدري في كوابيسي دائما " أتنفّس تحت الماء"؛ غارقة في العمق، أرى نور الشمس عند سطح البحر كحبل إنقاذ لؤلؤي ممتد لا تصل إليه يدي اليائسة. أراقب القوارب تمر في صمت، أراهم في الأعلى ولا ينتبهون لمأساتي في الأعماق وأنا هُنا.. أتنفّس تحت الماء".

القارئ للرواية لا يجد الصوت (طَقْ) وحده؛ بل هناك أصوات أخرى تصارعت في إصدار مقاطع متنوعة من الأصوات، تباينت بين الناعمة والحادة وبين المتسلطة والمذعنة… أترك لكم اكتشافها بأنفسكم.