«السلطة الخامسة» أو حكام العالم الجدد (2 - 2)

 

د. مجدي العفيفي

 

 (6)

طرحنا في المقال السابق أن السلطة الخامسة هي أكبر عنوان في هذه المرحلة من القرن العجيب، وهي سلطة خامسة فوق كل السلطات، فأدواتها قوة ضاربة لا تتوقف، وشبكاتها؛ كالفيسبوك، تويتر، الانستغرام، السناب شات، اليوتيوب، التيك توك، ومنصات المؤسسات الإخبارية الإلكترونية، جديرة بإرباك النظم السلطوية التي فرضت نفسها على شعوبها، الأمر الذي شغل المفكر العماني د. أنور بن محمد الرواس: أستاذ الإعلام السياسي بجامعة السلطان قابوس، كمرتكز في رباعيته: «جدلية المواطن والسلطة» و«المشهد السياسي العماني» و«العقل المعطل في الخطاب العربي» ثم أطروحته التي بين أيدينا الآن عبر كتابه «السلطة الخامسة» تلك السلطة وأدواتها، التي أشعلت العالم معرفة وضياء، وأحدثت ثورة معرفية من خلال منصاتها الإعلامية، ووفرت للعالم أجمع الممر الآمن للولوج لمواقعها بكل سهولة ويسر. فشبكات التواصل الاجتماعي أتاحت للجميع التعبير بحرية بعيدا عن الرقيب والرقابة، وأحدثت زعزعة لكثير من الأنظمة التي تخاف الكلمة المنطوقة والمكتوبة.

البعد الأيديولوجى، في عناوين كتاب «السلطة الخامسة» هو أوضح الدلالات، فيحملها رؤيته الواضحة ورأيه الصريح، طبقا لمعتقداته وقناعاته، حيث يختزل رؤيته في عنوان لا يفهم بمعزل عن النص، فيشحنه باشتغالية عالية تنفجر منها القصدية والانتباه، ليستمد قيمته الدلالية من حزمة ضوئية كاشفة لأبعاد القضية التي تشغل المؤلف، الذي يُريد للمتلقي أن ينشغل بها أيضًا، ويُعمل التفكير فيها؛ حيث يأتي محملا بإشارات وشحنات تتكئ على دلالات لغوية واجتماعية وأخلاقية.

إن كل عنوان، يبدو كأنَّه يفكر لمقالات الفصل في كليته، فيغدو بمثابة عملية تأشير لها، واختزال لما فيها من أفكار، بجدلية نسميها فى الأدبيات النقدية «جدلية العنوان والنص» فيختصر الكاتب نصه فى العنوان، ويعبؤه بطاقةٍ تجعله يفكر للنص، كوظيفة تتجاور مع الوظائف الانفعالية والمرجعية والانتباهية والجمالية.

(7)

برغم الدعوات التأكيدية المستمرة، على أنه لا ينبغي أن ننسى أن عالم الإنترنت بجميع كائناته ووسائله وإمكانياته، هو عالم افتراضي في المقام الأول، تحول إلى إمبراطورية هي من صنع مؤسسات وبفعل فاعل، لكنها تظل افتراضية، مليئة بالغث والثمين، مسكونة بالاتجاهات والأطروحات، مسيرة للتوجيه لمآرب قد تبدو بريئة - وهذا قليل - ومآرب أخرى - وهذا كثير - موجهة، وما في ذلك شك لكل ذي فكر.

وعلى الرغم... وعلى الرغم...وعلى الرغم...يتأكد يوما بعد يوم، وحينا بعد حين، أن مفردات الميديا، من إنترنت، وجوجل، وفيس بوك، وتويتر، وواتساب، وتليجرام، وغيرها من شخصيات هذه السلطة، هي التي تحكم، وتحكم حتى (حكومة العالم الخفية)، فما بالكم بالحكومات الظاهرة، الجالسة على كراسيها!

و«السلطة الخامسة» رسالة مشحونة بأكثر من نذير وتحذير، ومسكونة بالخوف على المستقبل والتخوف منه، خاصة أنه يعتمد على اللحظة الراهنة، والمقدمات الصحيحة، التي تؤدي إلى نتائج سليمة بلغة المنطق.

وتتجلى أهمية هذه الإشكالية التي يتفجر بها الكتاب من كونها تتحدث بلغة العصر، الذي يمتاز بأن متغيراته أكثر من ثوابته، وهذه طامة كبرى لمن أراد أن يتفكر أو أراد مصيرا.. لاسيما سكان كوكب الإنترنت بكل متعلقاته ومعقولاته ولا معقولاته.

وتصبح الإشكالية أخطر، إذ ليس ثمة ملجأ يحمي العالم من مصادرها، لأن الحكم هو الخصم، وباختصار بدون لف ولا دوران المعضلة تقول: «منتجو المعرفة ومالكوها سيصبحون قريبا حكام العالم الجدد، أما مستهلكو المعرفة، فلن يكون لهم إلا دور العبيد الجدد».

يقول مفكرنا«إن شبكات التواصل الاجتماعي، أحدثت انقلابا في كل مناحي الحياة، وأشعلت فتيل التحدي لدى فئات المجتمع، واخترقت منظومات قيمية وفكرية وأيديولوجية وثقافية، كانت تُعد من «التابوهات» المحرمة التي لا يمكن اختراقها».

ويحرضنا على ثقافة الأسئلة، حين يسأل، فنسأل معه، سؤالا استفهاميا واستنكاريا أيضا: لماذا تمرد الناس على منظومة القيم والفكر والثقافة؟ فإن الإجابة وببساطة، هي الانعتاق من التبعية، ومحاولة اكتشاف الجديد، والخوض في مغامرات قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، إذ إن التمرد البشري قائم على كسر الممنوعات.

لكن تفاصيل هذا التحول العالمي غير المسبوق، يمثل العمود الفقري لهذه الأطروحة الإعلامية عبر الفصول التسعة، التي تنتظم كتابه الجديد: وسائل التواصل وتأثيرها في الرأي العام، الإعلام العماني بين الحرية والمسؤولية، العالم بدون إعلام، الوظيفة السياسية للإعلام، القضايا الخليجية في وسائل إعلامها، الشباب والإعلام الجديد، الإنسان والاتصال، الأسرة والعولمة والفضائيات، الإنتاج البرامجي.

(8)

نجح مصمم الغلاف ومخرج الكتاب الفنان د.«عبد الكريم محمود» في المساهمة بالتوظيف الفني لفكرة الكتاب، وصولا إلى المتلقي، فاختار الرموز الشائعة في فضاء كوكب الميديا، التي تحركها الأصابع الخفية، وصاغ رؤيته الفنية المستلهمة من نبوءة المؤلف د.الرواس، وهي نبوءة فكرية إعلامية في ظاهرها، لكنها سياسية في باطنها، ومن ثم تتجلى أهميتها، خاصة حين ننظر إلى الواقع ونناظر به ما وراء الواقع، ذلكم أن مطابقة التصورات للتصديقات، هي أحد أكبر وأصدق المعايير في الحكم على المرجعية العرفية والمعرفية والأخلاقية والجمالية لعالم الميديا الرائع والمروع في آن واحد.

(9)

نعم .. منتجو المعرفة ومالكوها، سيصبحون قريبًا حكام العالم الجدد.. أما مستهلكو المعرفة، فلن يكون لهم إلا دور العبيد الجدد، طبقا للأدبيات الإعلامية الحديثة جدًا.

(10)

صدقت دكتور أنور الرواس، في نبوءتك «لا يمكن لأمة أن تعمل بمعزل عن الواقع التكنولوجي والتطور التقني في مجال الاتصال الإعلامي، لذا يجب أن تستفيد من مقومات العصر التقني، الذي بات يحمل مضامين إعلامية متعددة ومتجددة ومتغيرة، يمكن الوصول إليها دون خوف، فهي متاحة للجميع، بعيدا عن الرقابة الرسمية للدول».

وقد حق له القول التجسيدي، للراهن والقادم في فضاء السلطة الخامسة، التي هي أقوى من كل السلطات المعروفة، أن هناك حالة من الارتباك عندما يتعلق الأمر بشبكات التواصل الاجتماعي، وهناك من يتوجس منها خيفة؛ لكونها القوة الناعمة التي دخلت البيوت دون استئذان، وأصبحت تشكل تحديًا على المجتمعات بحكم تأثيراتها المباشرة في حياة وسلوكيات المجتمعات.

أهلًا بهذه الشعلة الإعلامية السياسية، التي يوقدها الدكتور أنور الرواس، على رفوف المكتبة العربية، من ذاته وموضوعيته، يتداخل نورها ونارها في تعادلية متناغمة، هي بمثابة المعادل الموضوعي لرؤية أستاذ الإعلام السياسي، في زمن تعز فيه «الأستاذية» الإعلامية إلا قليلًا!