ماذا بعد الانفتاح الاجتماعي والثقافي؟

 

 

مفهوم الانفتاح الاجتماعي والثقافي الفكري هنا يُفسَّر على أنه ضد الانغلاق.. وهنا الخطأ في ضوء ما تقدم

 

د. عبدالله باحجاج

سنضع أمام الوعي السياسي قراءة لإصلاحات مالية وأخرى اجتماعية تطبَّق براديكالية، ودفعة واحدة، وتنسخ منظومة تفكير وسياسات ومظاهر دون مراعاة مدى صلاحيتها داخل منطقة الخليج العربي، أو التفكير في تبعاتها السياسية، في وقت تظهر انعكاساتها داخل بلدانها بصورة مقلقة، والقلق يظهر داخل المنطقة الخليجية بعيد تطبيقها، أي فوريًا، فكيف بالمُستقبل المنظور؟

قضية التطبيق تتجاهل طبيعة المجتمعات الخليجية التي تتميز بخاصية التفاعل السريع مع التطورات المادية والفكرية، وهي مجتمعات تأسست منذ عدة عقود على أيديولوجية وطرق تفكير وليدة بيئتها، وتعكس شخصية دولها، وإذا ما كانت هناك إرادة لتغيير هوية المجتمعات، فينبغي الإدراك بطبيعة الخطوة التالية للانفتاح الاجتماعي والثقافي/ الفكري.

وهنا نتساءل: هل لدى الحكومات الخليجية ضمانات بأنها ستنجح في انفتاحها الاجتماعي والثقافي/ الفكري دون ثمن سياسي؟ لا يُمكن أن يتم فتح المجتمعات وإطلاق الحريات الفردية، وتبني نظام الجبايات (الضرائب والرسوم) وتظل الحكومات محتكرة لصناعة القرارات، وتنفرد برسم السياسات والاستراتيجيات وتوزيع الثروات؛ فالانفتاح الاجتماعي والثقافي/ الفكري سيكون مقدمة للانفتاح السياسي؛ سواء في الأنظمة السياسية أو اختيار الحكومات وبقائها، أو علاقتها بالمؤسسات الشريكة لها، كالمجالس المنتخبة ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وسيكون الانفتاح السياسي بقدر سرعة الانفتاح الاجتماعي والثقافي/ الفكري، فهل الحكومات الخليجية تفكر في هذه التلازمية الإصلاحية الحتمية؛ سواء بفعل الضغوط الداخلية أو الخارجية أو هما معًا؟

هناك تباين خليجي في التطبيق الآن، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة نماذج؛ الأول: قد بكّر في التطبيق قبل غيره، وفتح مجتمعه وثقافته على ديموغرافيات وثقافيات، وأصبحت ديموغرافيته الوطنية أقليةً، مما يطرح قضية التجنيس مع ما يتبع ذلك من مخاطر على هوية الدولة من قبل الديموغرافيات الوافدة. والثاني: بدأ حديثًا في الانفتاح، ويطبقه بصورة شمولية وفورية، وكأنه في سباق ماراثوني. والثالث: يراعي الحذر في انتقاء الانفتاح، ويختار أدواته وفق سياقات انفتاحاته المالية والاقتصادية، لكنه يرسل بين الفينة والأخرى رسائل انفتاحية خارج السياقات لقياس ردة الفعل الاجتماعية والفكرية.

القاسم المشترك وراء الانفتاح الخليجي، وجود نخب ليبيرالية في مواقع السلطة في الخليج، تغامر بنسخ المفهوم الغربي للانفتاح الاجتماعي والثقافي/ الفكري، على عكس النخب السابقة التي رغم ليبراليتها إلّا أنها كانت تراعي الثقل الاجتماعي، ومن ثم مزجت البعديْن الليبرالي والاجتماعي في دور الدولة، والانحياز الآن نحو "النيوليبيرالية" سيترتب عليه أنه لا يمكن للحكومات أن تستفرد بفرض الضرائب وسن التشريعات؛ بل لا بُد أن توافق عليها البرلمانات، لأنَّ جيوب المواطنين تصبح مصدر دخل للموازنات الحكومية، كما إن من أساسيات الليبيرالية الشفافية لمالية الدول، ومعرفة مساراتها وأحجامها، ومنح الحق للبرلمانات وإقالة الوزراء أو الحكومات.. وجعل صناديق الاقتراع مصانع إنتاج النخب السياسية والحكومية والبرلمانية.. إلخ.

وعندما ينطلق الانفتاح بشكله الحالي في الخليج، فهذا يُمهِّد لانطلاقته الشاملة، ولن تكون مسألة انتقائية، بمعنى أنه لن يقتصر الانفتاح اجتماعيًا وثقافيًا/ فكريًا؛ بل سيكون سياسيًا وفق ما أشرنا إليه سابقًا، مما سيبرز ظاهرة النخب المُستقلة من رحم مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وستنتقل إدارة المصالح الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية إلى المجالس المنتخبة، وإذا ما قاومت الحكومات الإصلاحات السياسية، فلن يدوم طويلًا، وخلال هذه الفترة ستشهد تجاذبات مرتفعة ومتصاعدة، قد تتلاقى معها قوى داخلية وخارجية بأهداف مختلفة.

المتأمل في المشهد الاجتماعي الراهن في الخليج، سيخرج بوجود مشروع معارضتين متزامنتين ومتداخلتين، وهما: معارضة التحولات المالية التي تتبناها الحكومات الخليجية في إصلاحاتها المالية التي تقودها الضرائب والرسوم، والأخرى معارضة إطلاق الحريات الفردية ... إلخ، ولا ينبغي النسيان أو التناسي بأن المجتمعات كانت أسبق من الأنظمة السياسية في الخليج، وكل جماعة مرتبطة بأراضٍ أو أقاليم داخل بعض الدول، وتسمى بأسمائها، وهذه خصوصية اجتماعية استثنائية تتباين قوتها بين دولة وأخرى، وتظهر أكثر في المجتمعات التي تأطرت بأيديولوجيا ميزتها داخل دولتها.

ومن ثم، فإن مفهوم الانفتاح الاجتماعي والثقافي/ الفكري هنا يُفسَّر على أنه ضد الانغلاق، وهنا الخطأ في ضوء ما تقدم، وفي ضوء أن الانفتاح على الحياة في ظل الاحتفاظ بخصوصيات المجتمعات الخليجية ينبغي أن ينحصر في التجديد والتنوير في البنى الاجتماعية والتعليمية، وليس وفق معادلة الانفتاح ضد الانغلاق، كما نشهده في عواصم خليجية الآن بصورة تثير القلق المتزايد للفاعلية الفكرية والثقافية في كل العواصم الخليجية، وقد بدأت تظهر معارضتها فوق السطح بصورة متصاعدة.

وينبغي أن يؤخذ في الحسبان تلاقي المعارضتين، الاجتماعية للتحولات المالية مع نظيرتها الثقافية/ الفكرية، وإطلاق الحريات المدنية، فهذا يعني صناعة اصطفاف المجتمع داخل كل دولة. والمتأمل في السياسات المالية وفي طبيعة الإصلاحات الاجتماعية في الخليج ستظهر له منذ الوهلة الأولى صناعة هذا الاصطفاف بتعدده وتنوعه، خاصة وأنها تُطبَّق دفعة واحدة وفي حقبة زمنية متغيرة، وبتحديات جيوسياسية مفتوحة.

فهل لنا أن نستشرف مستقبل العلاقة السياسية بين الحكومات والشعوب الخليجية في ضوء الانفتاحات والإصلاحات سالفة الذكر؟!