معالم الأزمة المالية القادمة

حاتم الطائي

الهيمنة الأمريكية وراء العديد من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة

انهيارات البنوك تُلحق أضرارًا بالغة بالاقتصاد العالمي

◄ ضرورة بناء تحالفات تعمّق التعاون الاقتصادي إقليميًا ودوليًا

 

هل العالم مُقبل على أزمة اقتصادية ومالية مُركّبة خلال المرحلة المُقبلة؟ الإجابة: نعم، بدرجة كبيرة!

لم تكن هذه الإجابة شطحة خيال أو ضربًا من التنجيم؛ بل استشرافاً صادقاً لما قد تؤول إليه الأحداث (المعطيات) الراهنة، فالولايات المتحدة الأمريكية صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ومنذ أن بدأ بنكها المركزي (الاحتياطي الفيدرالي) حُمى رفع أسعار الفائدة بدعوى خفض التضخم؛ باعتبار أن ذلك الحل الأوحد والوحيد لمُعالجة ارتفاع الأسعار وتراجع القيمة الشرائية للعملة، غير أنه تسبب في المقابل في تفاقم الأوضاع الاقتصادية العالمية، فما أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، حتى تتسابق البنوك المركزية حول العالم لاقتفاء الأثر، بدءًا بالمركزي الأوروبي، ثم الاقتصادات الكبرى، وما يليها من اقتصادات تربط عملتها الوطنية بالدولار، وكأنها العُملة التي لا تفنى ولا تُستحدث من العدم!!

الواقع يؤكد أن الولايات المتحدة وراء العديد من الأزمات، بسبب هيمنتها على الاقتصاد العالمي والموارد الطبيعية في عدد من دول العالم، فضلًا عن تحكمها في حركة التجارة العالمية، وقدرتها على إلحاق الأذى بأي اقتصاد، مهما كانت ضخامته وقوته، وذلك من خلال سياسة فرض العقوبات، التي لا تقل في سوئها وضررها البالغ، عن عمليات السطو المُسلَّح. فيكفي لأي دولة أن تخالف العم سام في توجهاته، أو ترفض أن تكون تابعًا مُخلصًا، أو تسعى لأن تحتل المكانة الأولى عالميًا، حتى تسقط في براثن العقوبات الأمريكية، التي لولا الدولار وهمينته العالمية، ما كان لهذه العقوبات أن تجد طريقًا للتطبيق، وإن وجدت فستكون محدودة الأثر، وهذه العقوبات دمرت دولًا وشعوبًا، مثل فنزويلا والعراق وإيران.

وإلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة المتزامن مع التضخم العالمي، واختلال سلاسل الإمداد والتموين، تتزايدُ المخاطر الاقتصادية جراء استمرار الحرب في أوكرانيا، والتي يبدو أن أمريكا والغرب لا يريدون أن تضع أوزارها، ظنًا منهم أنها تُنهك الدب الروسي. هذه المخاطر الاقتصادية تؤثر بشدة على اقتصادات العالم أجمع، فنجد الاقتصادات الناشئة والنامية تمر حاليًا بمنعطفات تُهدد استقرارها الهش- في الأساس- وتذبذبات عنيفة في قيمة عملتها، وانكماش شديد في نمو قطاعها غير النفطي، وارتفاع ملحوظ في معدلات البطالة، ونقص الموارد التمويلية في الموازنات العامة، إلى جانب انعكاسات هذه التحديات الاقتصادية على الوضع السياسي والاستقرار الأمني والاجتماعي في هذه الدول.

وفي ذات الإطار، ألقت الأزمة الاقتصادية المُركبة، بظلال قاتمة على أسعار النفط، فبين صعود وهبوط وإجراءات منظمة أوبك أو تحالف "أوبك بلس"، يظل النفط يواجه مستقبلًا غير واضح المعالم، ويستتبع ذلك بالضرورة تأثر تجارة المعادن، وخاصة الذهب، الذي يمثل ملاذًا آمنًا للمستثمرين. ورغم أن الدول النفطية- وفي المقدمة دول الخليج العربي- حققت عوائد مالية جيدة بفضل ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة الأخيرة، أسهمت في خفض جزء من مديونيتها وساعدتها على تعزيز برامج الحماية الاجتماعية والتوسع في مخصصات الإنفاق العام، وغيرها من الإيجابيات، غير أن اقتصادات الدول النفطية ما زالت أمام تحدٍ حقيقي لم يُتجاوَز، ألا وهو تحدي إيجاد الموارد البديلة وتحقيق التنويع الاقتصادي، وضمان ديمومة نمو الناتج المحلي وتحسن مستوى المعيشة، إلى جانب الأهداف الاقصادية الأساسية مثل: سداد الدين العام وخفضه إلى مستويات آمنة، وتقليل العجز المالي، وحتى العجز المالي مع استمرار مساعي زيادة الصادرات وتعزيز الصناعات الوطنية.

وإلى جانب ما سبق، تتسبب الانهيارات المتتالية لبنوك أمريكية وإفلاسها، في أضرار جانبية للاقتصاد العالمي، على الأقل فيما يتعلق بالاستثمارات- وخاصة استثمارات الصناديق السيادية- في هذه البنوك، فقد شهدت الأشهر الأخيرة انهيار 3 بنوك أمريكية، هي: بنك سليكون فالي، وبنك سيجنتشر، وبنك فيرست ريبابليك، وهذه البنوك مجتمعة كانت تدير أصولًا بقيمة تقارب 532 مليار دولار، ومن المفارقات العجيبة أن هذا الرقم يعادل ما يزيد عن قيمة ودائع البنوك التي انهارت إبان الأزمة المصرفية في 2008، التي أسقطت العالم في ركود حاد، وتسببت- وقتذاك- في انهيارات أشبه بسقوط "أحجار الدومينو" المتتالي. التقديرات تشير كذلك إلى أنَّ حركة الأموال الناتجة عن سحب الودائع واستحواذات البنوك الكبرى على المؤسسات المصرفية المنهارة، تتجاوز حاجز التريليون دولار بمراحل، وربما يكون الرقم أكبر مما ترجحه المراكز البحثية أو الجهات الرقابية، بسبب التلاعبات التي تشتهر بها هذه المؤسسات في حساب عملياتها المصرفية.

من جهة أخرى، تُهدد الولايات المتحدة مرة ثانية الاقتصاد العالمي من خلال أزمة "سقف الدين العام" التي تطفو إلى السطح بين الحين والآخر، والتي يُفجرها الصراع الدائم بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري؛ إذ يواجه الاقتصاد الأمريكي خطر الانهيار إذا لم يوافق الكونجرس (ذي الأغلبية الجمهورية) على مطالب الحكومة بقيادة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، برفع سقف الدين الأمريكي، والمُحدد حتى الآن بنحو 31.4 تريليون دولار، صعودًا من 16.7 تريليون دولار قبل 10 سنوات (عام 2013)؛ أي بنسبة زيادة تتجاوز 95%، فقد قفز الدين العام الأمريكي خلال العقد الأخير فقط بحوالي 14.7 تريليون دولار.

هذا الوضع الخطير دفع جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية (والتي كانت تشغل من قبل موقع رئيس الاحتياطي الفيدرالي)، إلى دق ناقوس الخطر من "احتمال نفاد السيولة المتوفرة للحكومة بحلول الأول من يونيو المقبل" إذا فشل الكونجرس في إبرام اتفاق يضمن تعليق العمل بسقف الدين؛ الأمر الذي سيسمح للحكومة الأمريكية أن تحصل على مزيد من القروض، كي تواصل بنود الإنفاق، وأهمها دفع رواتب الموظفين ومن ثم تفادي "إغلاق الحكومة" أو ما يُعرف بـ"Government Shutdowns". ولذلك سارع الرئيس بايدن بطلب اجتماع عاجل لقادة الكونجرس (رئيس المجلس، ورئيس الكتلة الجمهورية، ورئيس الكتلة الديمقراطية)، يوم الثلاثاء المقبل، للتباحث حول كيفية رفع سقف الدين العام، ويبدو أن تصاعد حدة المنافسة السياسية بين الحزبين الكبيرين قد يضع الجميع أمام طريق مسدود، ومن ثم تقع الكارثة الكُبرى، والتي تُنذر بتقلبات عنيفة في البورصات العالمية علاوة على تقويض الثقة في أكبر اقتصاد في العالم.

لذلك لا نرى مُبالغة عندما نقول إن ثمة أزمة مزدوجة تلوح في الأفق، والسبب سياسات الولايات المتحدة التي قد تقود العالم إلى هوة سحيقة من الأزمات الدائمة، من أجل أن يتعافى الاقتصاد الأمريكي على ظهر الاقتصادات الأخرى المُنهكة. فإذا ما جُمعت أزمة الحرب في أوكرانيا (والتي تسببت فيها سياسات الولايات المتحدة) وأزمة أسعار الفائدة المرتفعة وأزمة التضخم، وأزمات المصارف المُنهارة، وأزمة سقف الدين الأمريكي، نجدُ العالم في مستنقع أزمات اقتصادية ويبدو الاقتصاد العالمي وكأنه يسير مُكبل القدمين في الوحل، غير قادر على المضي قدمًا، وقد يسقط مغشيًا عليه في أي لحظة.

ويبقى القول.. إنَّ على دول العالم التحرك سريعًا من أجل تفادي انهيار يبدو حتميًا للاقتصاد العالمي، نتيجة للسياسات الأمريكية، وأخصُ بالذكر هنا الاقتصادات الكبرى مثل الصين وروسيا، واقتصادات آسيا النامية، والاقتصادات الناشئة، واقتصادات الدول النفطية، وذلك من خلال بناء تحالفات تعمّق التعاون الاقتصادي؛ سواءً على المستوى الدولي أو الإقليمي، إلى جانب تبني الاقتصادات لسلة عُملات أجنبية وعدم الاعتماد على الدولار الأمريكي فقط، علاوة على تعزيز التبادلات التجارية بين الدول بالعملات الوطنية بدلًا من الدولار الأمريكي، وكل ذلك سيعود بالنفع على الاقتصاد العالمي، ويخفف من وطأة أي أزمة اقتصادية قادمة.