د. خالد بن حمد الغيلاني
@khaledalgailani
كان الحديث في المقال السابق عن التخطيط؛ وهو ركيزة من ركائز العمل المؤسسي المنتج، كما أنه أحد متطلبات الجودة التي تعمل مختلف المؤسسات في إطارها، وكما هو متفق عليه؛ فإنَّ أي مسؤول يحتاج ليكون ذا دراية ومعرفة بالتخطيط، ليتمكّن من تحقيق أهداف العمل لديه في إطار من الجدية والتميز، ومستوى عالٍ من الإنجاز.
وما يبحث عنه المسؤول في مقال اليوم هو التخطيط الاستراتيجي، الذي كثيرًا ما نسمع عنه، ويتحدث عنه الكثير؛ سواءً بمعرفة ووعي، أو حديث عابر للاستهلاك أكثر منه مسارًا تسير عليه المؤسسة.
وقبل الحديث عن التخطيط الاستراتيجي؛ فمن المهم معرفة الاستراتيجية؛ التي هي كما أورد (دودين) في كتابه؛ كلمة يونانية مشتقة من كلمة "تاسين"، ويقصد بها في الأصل فن القيادة العسكرية في المعارك، وعند دخولها في قضايا الإدارة والتخطيط المختلفة، فإن تعريفها لم يختلف كثيرا عن مرادها في الأصل، وقد عرفّها شاندلر بأنها: تحديد الأهداف طويلة الأجل، وبالتالي فإن الحديث يكون عن رؤية مستقبلية، تهدف في الغالب إلى تطوير العمل، وتنمية المؤسسة، وبنائها بما يتسق مع متطلبات المستقبل، وهذا يحتاج إلى قدرات عالية لدى القائمين على هذا النوع من هذه الرؤى الاستراتيجية المستشرفة للمستقبل، والعاملة له.
والتخطيط الاستراتيجي؛ عملية مُنظمة مستمرة تسعى من خلالها المؤسسة إلى الانتقال من وضعها الحالي، إلى وضعها في المستقبل، في ظل الإمكانات المتاحة لها، وهي عملية مهمة جدًا في اتخاذ القرارات لمستقبل المؤسسة، ويرى (بني حمدان) أن التخطيط الاستراتيجي؛ يستند إلى مجموعة من التساؤلات؛ أين نحن الآن؟ بمعنى معرفة الوضع الحالي للمؤسسة، وهذا يساعد في تحديد عناصر الإيجاب لتعزيزها، والتحديات لإيجاد الحلول المناسبة لها، كما يستطيع متخذو القرار معرفة الإمكانات المتاحة للبناء عليها.
والتساؤل الثاني: أين نرغب أن نكون؟ وهذا استشراف للمستقبل، تحدده الرغبة في التطوير، والطموح لبلوغ مستويات عالية من الإنتاجية، وفقا للأهداف التي تعمل المؤسسة على تحقيقها في إطار زمني محدد.
والتساؤل الثالث: كيف نصل إلى هناك؟ وهذا تساؤل مهم جدا فمن خلاله يتم تحديد الطرق والوسائل التي تمكّن المؤسسة من بلوغ غاياتها من خطتها الاستراتيجية، بمستوى عال من الجودة، ووفقاً للموارد المتاحة. وهنا أنبه إلى ضرورة أن تكون الجودة هي المنشودة؛ وليس الإمكانات كما يفعل الكثير، فتكون خططهم واهية، ويرمون اللوم على الإمكانات، فإن أردنا تخطيطًا استراتيجيًا ناجحًا؛ فالأولى النظر لمعايير الجودة وتحقيق الأهداف، وليس إخضاع الأهداف للموارد، فإن اتفق هذا مع ذاك فتلك الغاية المرام، وإلا فالجودة، وحسن تحقيق الأهداف.
والتساؤل الرابع: كيف نقيس مدى تقدمنا؟ وهذا أمر مهم فمن خلال المتابعة والتقييم، يمكن معرفة ما تم إنجازه ليعزز، وما هي التحديات ليتم التغلب عليها، ولا يصح إغفال هذا التساؤل في التخطيط الاستراتيجي؛ بل من المهم توقع المخاطر التي يمكن أن تطرأ من خلال قراءات وتحليلات معمقة للواقع، خاصة المسار الاقتصادي الذي هو القاعدة المتينة التي يستند عليها أي تخطيط، ولاسيما أن يكون تخطيطًا استراتيجيًا، وهذا يحتاج منَّا الاستعانة بذوي الخبرات في مثل هذه الجوانب، فمما يسبب خللا في التخطيط؛ أن يستشعر متخذو القرار والمسؤولون أنهم مستغنون عن مشورة ورأي ذوي الخبرات، وأن هذا يعد نقصا منهم، وحقيقة الأمر أن الاستفادة من ذوي الخبرات أحد مقومات النجاح المؤسسي، والتي تنسب لذلك المسؤول الفطن الذي أخذ بقاعدة "ما خاب من استشار".
والتخطيط الاستراتيجي مهم جدًا لأي مؤسسة؛ من خلاله تستطيع المؤسسة رسم السياسات، وتحديد الأولويات، وبناء الأهداف التي تسير من خلالها المؤسسة نحو مستقبلها بخطو ثابت متزن، وعلى قواعد متينة صلبة، ووفق أهداف مستمدة من الواقع، ومتفقة مع أهداف الوطن العامة، وفلسفته التطويرية.
كما إن التخطيط الاستراتيجي يُساعد المؤسسة على تحديد مهارات القادة والمسؤولين لديها وفق متطلبات المستقبل، فيتم إعدادهم وفقاً لذلك، وتطوير مهاراتهم ليغدو أكثر قدرة، وأشد تمكينا للنهوض بأعباء العمل، ومقتضيات حال الإبداع والابتكار الذي هو أحد أعمدة المستقبل وعتاده.
ومن خلال التخطيط الاستراتيجي؛ تبرُز الحَوْكَمة، ويظهر دورها في تقييم العمل، وتأطيره، وتحديد المهام، ومكافأة المجتهدين، ومحاسبة المقصرين، والحد من مستويات الخلل، والقضاء على الفساد، وتحجيم الساعين إليه، والضرب على أيدي أولئك العابثين بالمال العام، والمعطلين للتنمية والتطوير.
ومن خلال التخطيط الاستراتيجي تتضح معالم العمل، ويعلم العاملون في المؤسسة مسار العمل، وخارطة الطريق فيه، فيعلم كل واحد منهم دوره، ومهامه، فيسعى إلى تحقيقها في إطار من العمل المتكامل، وبرؤية واضحة، هذا الأمر لا محالة سيكون أثره إيجابيا على المؤسسة وكل فرد فيها، فكلما كانت الأمور واضحة، كلما ساعد في تحقيق الأهداف، وكذلك تجاوز التحديات، وجعل من المؤسسة كيانًا واحدًا متفقًا، مدافعًا، متزنًا، متمكنًا.
أيها الأخ العزيز المسؤول الطامح هذا غيض من فيض فيما يتعلق بالتخطيط الاستراتيجي، وآخر القول إن العبرة ليست بالتنظير، وإنما بالقناعة التامة بدور هذه المرتكزات، وأهميتها في سير العمل وتطويره، وبالممارسة الفعلية سوف تدرك الفارق بين من يُعطي التخطيط حقه من العناية والاهتمام، وبين من يراها أمورًا شكلية يكفي أن تكون منمقة محبرة ملونة على ورق مصقول، وفي مواقع وأيقونات لا نفع منها سوى زيادة عدد المتابعين.