حاتم الطائي
◄ "حرب العصابات" لن تُفضي إلى منتصر ومهزوم.. والدولة السودانية الخاسر الأكبر
◄ وقف إطلاق النار يجب أن يكون هدف المساعي الدولية لحماية المدنيين
◄ الهدف من القتال في السودان تفتيته إلى دويلات متناحرة تتشارك حدودًا مُلتهبة
لم يكد السودان يفرغ من أزمته التي تلت عزل نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير، وما تضمنته من مناوشات سياسية واستقالات لأعضاء الحكومة، ثم تعثُّر جهود العملية الانتقالية تحت حكم مجلس السيادة، حتى انفجرت الأوضاع وخلَّفت دماءً كثيرة، إثر التنازع المُسلّح بين أكبر رأسين عسكريين في هذا البلد الذي يئن منذ عقود تحت وطأة الفقر والمرض والفساد، وهو الثالوث المُدمّر للكثير من الدول العربية، غير أنَّ انحراف مسار الأحداث بهذه الكيفية العنيفة، يُؤشر على مدى تورُّط أطراف إقليمية ودولية فيما يشهده السودان من مأزق يُهدد الأمن القومي العربي بأكمله، وليس فقط أمن السودان.
الوقائع على الأرض تؤكد أنَّ القوات المسلحة السودانية، وهي القوة الأكبر والأشد عدة وعتادًا، تواصل ضرباتها جوًا وبرًا لمقرات وارتكازات قوات الدعم السريع شبه العسكرية. ولفِهم ماهية هذه القوات وطبيعة خوضها للمعارك، ينبغي العودة إلى جذور تأسيسها، والتي تعود إلى المرحلة التي اندلعت فيها المعارك في دارفور بغرب السودان، وسعى- وقتذاك- الرئيس عمر البشير إلى إنشاء قوات شبه نظامية تُساعد الجيش النظامي في قتاله ضد المتمردين في دارفور، والذين أطلقوا على هذه القوات اسم "الجنجويد" وهي كلمة مركبة تعني المقاتل على ظهر حصان، نظرًا لشراستهم في القتال. ثم في عام 2013، سنَّ البرلمان السوداني تشريعًا لتنظيم عمل هذه القوات وأُطلق عليها مسمى "قوات الدعم السريع"، غير أن ذلك التشريع لم يُخضعها إلى سلطة القوات المسلحة (الجيش السوداني)، وظل قائدها محمد حمدان دقلو (الشهير بحميدتي) يُؤكد أن قواته تتبع مباشرةً رئيس الجمهورية، على غرار قوات الحرس الوطني في عدد من الدول. وهذا ما يعني أن قوات الدعم السريع، متخصصة في الأساس في حروب الشوارع، ولذلك يصف مراقبون ومراسلون الحرب الدائرة الآن في شوارع الخرطوم بأنها "حرب عصابات"، وهو ما يُبرر سقوط هذه الأعداد الكبيرة من المدنيين في الصراع، والذين تقدرهم الأمم المتحدة بما يزيد على 500 مدني.
وخلال الأشهر الماضية التي سبقت تفجّر الأوضاع، وصلت العملية الانتقالية في السودان إلى مفترق طرقٍ، مع تصميم أطرافها على دمج قوات الدعم السريع في القوات المُسلحة السودانية، لتكون تحت لواء الجيش الوطني؛ من منطلق أن وجود قوتين عسكريتين مستقلتين يُهدد تماسك الدولة واستقرارها، ويجعلها عُرضة للتوترات وربما الاقتتال الداخلي، وهو ما حدث فعلًا في 15 أبريل الجاري، وزعم كل طرف أنه يحارب الطرف "المُتمرد"، بينما سقط المدنيون ضحايا، وتشرد الآلاف، ونزح عشرات الآلاف داخل السودان، فضلًا عن لجوء عشرات الآلاف إلى دول الجوار، وإجلاء الآلاف من الرعايا الأجانب.
كل ذلك يحدث بينما يكاد ينعدم الشعور بالأمن في العاصمة الخرطوم؛ حيث تستعر المعارك رغم محاولات فرض هدنة بدعم إقليمي ودولي، غير أن الانتهاكات ظلت مستمرة، كما لم يهدأ أزيز الطائرات التي تدُك تمركزات الدعم السريع، ولم تتوقف أصوات المدفعية التي تُسقط صواريخها على هذه القوات.
ولا شك أنَّ التدخلات الإقليمية والدولية، هي السبب الرئيس في انفلات الوضع؛ إذ يبدو أن المؤامرة والتخطيط الدولي لإبقاء المنطقة العربية في أتون الحروب والصراعات الدموية لم تصل إلى خط النهاية. فبعد التقارب العربي العربي المتمثل في جهود إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، وتلاشي الخلافات العربية البينية، إضافة إلى التقارب العربي الإيراني، بعد استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، ومن قبل ذلك عودة العراق إلى محيطه الخليجي والعربي، نجد أنَّ الدور قد حان لإبقاء جذوة من النار مشتعلة في خاصرة العرب، مع تعمُّد إحداث تهديد مُباشر للأمن القومي العربي، وتحديدًا ضد السعودية ومصر، اللتين تتشاركان الحدود مع السودان. ولا ريب أن تفجّر الأوضاع في السودان لما هو أسوأ من الاشتباكات في العاصمة وانحصارها- حتى الآن- بين الجيش وقوات الدعم السريع، واحتمال نشوب حرب شاملة في أنحاء السودان- لا قدر الله- من شأنه أن يمثل تهديدًا مباشرًا لمصر التي تواجه تحديات أمنية هائلة على حدودها الغربية (ليبيا) والشرقية (فلسطين والأراضي المحتلة) والشمالية (أزمة المهاجرين غير الشرعيين ونزاعات غاز البحر المتوسط)، علاوة على تهديد أمن السعودية التي تقف على الجهة الأخرى من البحر الأحمر، الذي يمثل أحد مرتكزات التنويع الاقتصادي للمملكة ونقطة جذب استثماري واعدة.
التحدي الأكبر الآن يتمثل في ضرورة وقف إطلاق النار، وتوفير الحماية والأمن للمدنيين، والجلوس سريعًا على طاولة المفاوضات، التي يجب أن تستهدف في الأساس ضمان عدم وجود قوتين عسكريتين منفصلتين، وبالتوازي يتواصل مسار العملية الانتقالية التي تُمهِّد الطريق لتنحي الجيش وتسليم السُلطة للمدنيين، ولنا في المشير عبدالرحمن سوار الذهب الذي سلَّم السُلطة للمدنيين في أعقاب انتفاضة 1985، نموذجًا يُحتذى به.
ويبقى القول.. إنَّ لملمة جراح السودان يجب أن تكون الشغل الشاغل للأطراف الإقليمية والدولية، فتأجيج الأوضاع لن يصُب في مصلحة أي طرف، باستثناء العدو المشترك: إسرائيل، والغرب الذي يُريد سلب خيرات هذا البلد الغني بموارده المتعددة، وأمراء الحرب الذين يقتاتون على دماء الأبرياء، ومن ثم يُحققون الهدف الأول وهو تفتيت السودان إلى دويلات تتشارك حدودًا ملتهبة دائمًا.. لقد آن الأوان لاستئصال خيوط المؤامرة من جذورها، في ظل صحوة عربية بدأت تُدرِك حقيقة الأمن القومي لإقليمنا، فكُل من يُشعل النيران لا بُد أن يكتوي بها، ولا بديل عن مساندة الأشقاء السودانيين في تطلعاتهم لبناء دولة مدنية مستقرة تنعم بخيراتها في أمنٍ وسلامٍ.