◄ الرحلة إلى بريمن مليئة بالمغامرات والمرح والإجهاد
◄ عراقة البُنيان تمنح الزائر شعورًا بأنه يعيش في العصور الكلاسيكية
◄ التقنيات المُتحفية تُبهر الزائر وتجعله يعيش تجربة لا تُنسى
◄ حياة الريف الألماني تعج بالبهجة وسط أصوات الطبيعة الخلابّة
◄ تجربة المبيت في مخيم بالغابات تُكسب السائح خبرات حياتية جميلة
بريمِن (ألمانيا)- مدرين المكتومية
بين أحضان الطبيعة الساحرة، وعراقة المعمار الأوروبي الناجي من تداعيات الحرب العالمية، والتفوق التكنولوجي الهائل في واحدة من معاقل صناعة الطائرات الأوروبية، حظيتُ بفرصة لزيارة مدينة بريمِن الألمانية، واحدة من مدن ألمانيا وأكثرها شهرة بعد برلين وميونخ.
وقبل أيام، بدأت هذه الرحلة المُمتعة، التي تعرفت من خلالها على جمع طيب من الصحفيين من أنحاء العالم، جئنا جميعًا بدعوة من هيئة السياحة في ألمانيا، لحضور "سوق السفر الألماني"، وكنتُ قد أخذت كل استعداداتي لهذه الرحلة سواء من خلال شراء الملابس المناسبة لطقس هذه المدينة، البارد والماطر، أو قراءة بعض الملعومات المتاحة عن بريمن وكذلك مدينة إسن التي زرتها لاحقًا. وفي تمام الساعة 1:05 بعد منتصف الليل، انطلقت رحلتي من العاصمة مسقط، إلى إسطنبول في تركيا، ومنها إلى بريمن، التي كانت المحطة الأولى والجزء الأول من الرحلة المليئة بالمحطات الجميلة المتعددة.
12 صحفيًا
كُنا في رحلة بريمن 12 صحفيًا من مختلف الدول العربية والأوروبية، نحمل اختلافاتنا وثقافاتنا وأفكارنا لنتفق على فكرة واحدة، ولنجتمع في رحاب مدينة بريمن التي كانت محطتنا الأولى التي سننطلق منها نحو زيارة مدينة إسن، التي يزورها ما يقارب 350 مندوبًا من 39 دولة ليثروا أعمال معرض وسوق السفر الألماني، الذي أقيم خلال الفترة من 16 إلى 18 أبريل الجاري. لكن نحن كإعلاميين مشاركين في هذه المجموعة، بدأت رحلتنا يوم 12 واستمرت حتى 15 أبريل، بمدينة بريمن، قبل الانتقال إلى إسن. وكذلك الحال مع المجموعات الأخرى التي نزلت مدنًا أخرى لنلتقي جميعًا بعد ذلك نحو الهدف الرئيسي وهي مدينة إسن؛ حيث نزلنا فيها بفندق أتلانتس العريق الذي بدأت منه رحلتنا. كل منَّا كان يسكن أمام إطلالة رائعة لمقاعد خشبية، وممشى جميل، في مشهد بديع يتماهى مع قطرات المطر التي تهطل في زخات متفرقة، بينما نرى الكل يركض حاملًا مظلته ليختبئ عند أول محل أو مقهى يقيه صقيع البرد وشدة المطر. كنَّا نرى هذه التفاصيل العجيبة من نافذة صغيرة في غرفة الفندق. نستيقظ صباحًا لنرى لوحة فنية جسدها امتداد المسطحات المائية، الممتدة إلى النهر، حيث تقف السفن منتصبة شامخة على اختلاف وجهاتها.
سوق الأسماك
بدأت الرحلة بزيارة سوق الأسماك في بريمن الذي يحوي الكثير من محال الأسماك والمطاعم التي تقدم أنواعًا مختلفة من الأسماك بطرق تقديم وطهي متنوعة، فهناك الكثير من المصانع والمطابخ الخاصة بالأسماك، بين ما هو مجفف ومُخزّن بطرق مختلفة، وهناك ما يتم تقديمه بتوابل مُذهلة، وقد استمتعنا بأنواع الأسماك، وقد خضت تجربة تذوق الأسماك وأكلت أنواعًا كثيرة أعدها الطهاة بطرق طبخ وتقديم متعددة. كانت التجربة الأولى التي جعلتني أحاول أن أعطي نفسي فرصة لأن أكون أقرب لعادات وأطعمة أي بلد أزوره. ولم ينتهِ الأمر في ذلك اليوم عند سوق السمك، وإنما دخلنا في أعماق تاريخ هذا السوق العريق، وكيف أصبح بهذه السمعة وهذا العدد الكبير من المطاعم، فضلًا عن دوره في تصدير وتصنيع الأسماك. ومما عكس انبهاري بهذا السوق ومحتوياته، أنني لم أتوقف عن الأكل خلال فترة مكوثي هناك، وقد أسرني السوق بتصميمه المعماري الفريد وتنوع المعروض فيه، فعندما تتمشى في السوق لا تشعر أنك في سوق للسمك، فكل التفاصيل مُهيأة لأن تخوض تجربة جديدة وذوقا رفيعا في تصميم الأماكن الخاصة باستضافة الزوار.
بريمن وعلى الرغم من جمالها لم تتوقف عن منحنا الحياة وسط هطول الأمطار، إذ كنَّا نرتدي معاطفنا الشتوية، ونبدأ رحلة البحث عن المشروبات الساخنة، والتسكع في المواقع التي يمكننا السير أسفلها والاحتماء بها من المطر، كنَّا نعيش الحياة كمن يعيشها مرتين، مرة نشعر أن السماء سعيدة فتهطل علينا قطرات المطر، ومرات تشعرنا أنها غاضبة فترسل الصيب المنهمر علينا مع البرد الشديد دون توقف.. لكننا كنَّا سعداء في جميع الحالات.
متحف المهاجرين
لم تنتهِ ليالي بريمن سريعًا؛ حيث توجهنا لزيارة متحف المهاجرين، الذي يضم العديد من التذكارات والصور التوضيحية وأسماء العائلات التي هاجرت إلى ألمانيا، وعندما تقف أمام هذا المتحف تجد نفسك أمام قصة طويلة لا تنتهي، وكأنك تعيد مشاهدة حقبة زمنية كاملة، فمنذ عام 1830 تحولت مدينة بريمرهافن بولاية بريمن إلى ميناء للمغادرة لنحو 7 ملايين شخص توجهوا إلى العالم الجديد آنذاك، وهي الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا. وعند دخول المتحف يحصل كل زائر على بطاقة صعود مطبوع عليها اسم أحد هؤلاء المهاجرين. المُلفت في الأمر أن المتحف جسّد هجرة هؤلاء الأشخاص بكل تفاصيلها، وصور البشر وكأن الزائر يمشي بين بشر حقيقيين يحاولون الرحيل نحو العالم الجديد الذين يجهله البعض، ويكفيك أن تضع بطاقتك على أي موقع وتبدأ سماع سرد القصة عن تلك الشخصية، أو ذلك المكان، وربما ذلك المقتنى الموجود. ومن الممكن أن يتجول الزائرون أيضا في متحف السفن الألماني الذي تم افتتاحه عام 1975، ويعرض المتحف 5 آلاف عام من تاريخ النقل البحري في ألمانيا، ويتم عرض قطع بحرية أصلية؛ سواء تلك التي كانت تدار بالمجداف أو سفن الإنقاذ أو الزوارق الشراعية.
مطعم pier6
بعد هذه الزيارة، كنا على موعد مع عشاء فاخر في أحد أشهر المطاعم التي يمتلكها شخص يعمل ليل نهار لتوفير كل ما يلزم مطبخه، ليقدم أطعمة تليق بكل زوار المطعم، وأيضا تتناسب مع البيئة التي يعيش بها، وما يميزه أنه يسعى لأن يقدم كل الأطباق طازجة، لذلك وتحت رذاذ الأمطار ونحن نحمل مظلاتنا كنا نركض وكأننا نهرب من أحد، لنتوجه نحو مطعم "pier6" وقد استمتعنا بدفء المكان وبمذاق الأطعمة المختلفة والحلوى المعدة بطريقة فريدة.
جمال أخّاذ
لم نكن نريد لتلك الليالي أن تنتهي، ولأننا كنا نستمتع باختلاف الطقس بين المدن التي قدمنا منها، وبين طقس بريمن البارد، إلا أننا لم ننس أن بريمن لم تكن إلا بلد التناقضات والجمال الأخاذ، وبلد المتاحف التي لا تنتهي، ولأننا وقعنا في أسرها، لم نكن نريد لرحلتنا أن تنتهي، إذ قام المنظمون بأخذنا نحو قلب ولاية بريمن، التي تنبض بالحياة، ومضينا بين الأزقة والممرات الضيقة، بين الخضرة والمعمار بطرازه الأوروبي الكلاسيكي الذي يعود لعصور النهضة، وطابعه المتفرد الذي يدعوك للوقوع في حب هذه المدينة. إنها مدينة تقدم لك كل الإغراءات كي تعيش الحب مع كل تفاصيلها، بدءًا من البحيرات، وانتهاء بدور العبادة المختلفة. ولأننا في المدينة لم يكن الأمر كافيًا لأن نشاهد فقط الحياة بإيقاعها المتسارع والاستمتاع بالبشر وهم يعبرون بريمن بحيواتها المختلفة، وإنما كان ولا بُد أن نزور مصانعها ومزارعها الرائعة.
متحف المناخ
بريمن هي مدينة المتاحف، لذلك زُرنا بيت المناخ أو متحف المناخ في بريمرهافن، وهو من المزارات الرئيسية للسياح إلى هذه المدينة؛ وقد افتتح هذا المتحف في 2009، وتعتمد فكرة المتحف على القيام برحلة استكشافية يرى الزائر فيها مقاطع فيلمية لجبال الألب السويسرية، ثم ينتقل إلى جزيرة سردينيا، ثم منطقة الساحل، ثم الكاميرون وساموا، والدائرة القطبية الجنوبية، وألاسكا، وبحر الشمال؛ حيث تقع بريمرهافن. وأثناء العرض يتم استخدام الروائح والمؤثرات الصوتية وحتى درجة الحرارة تتغير لتجعل مشاهدة الفيلم أقرب إلى الواقع؛ فيشعر الزائر كأنه زار تلك الأماكن بالفعل. وبسبب التباين في درجات الحرارة بين أكثر من 40 درجة مئوية وما دون الصفر، يتعرض الزائر إما للشعور بالتجمُّد أو التعرق الشديد!!
حياة الغابات
وقبل أن تنتهي زيارتنا لمدينة بريمن، كنا على موعد لأن نعيش حياة أبناء الريف، فقد بتنا ليلتنا تلك في "مخيم فندقي" بإحدى الغابات التي يقصدها الناس للتخييم. ومن الملفت أنني ولاول مرة في حياتي أقوم بـ"الهاكينج" حيث سرنا على الأقدام لمسافة تقترب من 8 كيلومترات! وقد وصلت بعدها "منتهية"- كما نقول بلهجتنا المحلية. واستمتعتُ بعدها بركوب عربات تجرها الخيول، وتعرفت على أنواع عجيبة من الأشجار. لكن اكثر ما استمتعت به، هو تجربة الحياة الريفية، وكيف يحول الأشخاص حياتهم العادية إلى حياة تزيد من رصيدهم المالي والمعرفي، فقد استقبلتنا امرأة يبدو على ملامحها أنها في نهاية الأربعينيات من عمرها، لازمتنا في جولة رائعة بالريف الألماني، وقد أعجبتني أسلوبها في الشرح وكذلك لياقتها. شرحت لنا هذه المرأة الجميلة طبيعة الحياة الريفية في بريمن الألمانية، وأعدت لنا كعكة ريفية لذيذة بطرق بسيطة وخالية من السكر، كما تذوقنا النقانق المصنعة محليًا، وشربنا عصائر طازجة.
وكم كان رائعًا أن ننام في تلك الليلة بالمخيم وسط أصوات الطبيعة الساحرة في غرف زجاجية ترى من الداخل ما يحدث في الخارج، دون أن يراك من هو بالخارج! لنخوض تجربة مثيرة من العيش في الغابات المفتوحة، بينما نرى راعي الأغنام وهو يستيقظ ليأخذ غنماته نحو المراعي الخضراء، يساعده في السيطرة عليها كلبه الألماني الذكي..
كل شيء هناك يجعلك تقف عند روعة وانتظام الحياة والطبيعة وتوازنها بشكل تام!
انتهت رحلتنا إلى بريمن، لننتقل بعدها إلى مدينة "إسن"، التي سأكتب عنها في حلقة ثانية الأسبوع المقبل؛ لسرد تفاصيل هذه الرحلة الممتعة التي نظمها لنا معرض وسوق السفر الألماني.