د. محمد بن عوض المشيخي **
مُكافحة المخدرات بأنواعها قضية الساعة منذ عقود طويلة، ولم تجد طريقها للحل الأنسب الذي يُحقق طموح المجتمع الدولي في الشرق والغرب، على الرغم من وجود تعاون دولي مُنظّم من خلال مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة المُنظّمة، والذي يتخذ من العاصمة النمساوية فيينا مقرًا له.
ويعود الإخفاق في مكافحة المخدرات لارتباط تجار المخدرات في العالم بالنخب السياسية والمصالح الاقتصادية التي تستفيد من هذه التجارة الممنوعة، والتي يُقدر ريعها بمئات المليارات من الدولارات سنويًا؛ إذ يتم تحويل هذه الأموال في نهاية الأمر إلى القنوات الشرعية من خلال ما يعرف بـ"غسيل الأموال"، وعلى وجه الخصوص في بعض دول أمريكا الجنوبية والوسطى، وكذلك أوروبا التي لها سجل تاريخي معروف فيما يعرف بـ"حرب الأفيون القذرة" التي دارت رحاها خلال القرن التاسع عشر لتدمير الشعب الصيني الذي قاوم بضراوة استهدافه من قبل فرنسا وبريطانيا في ذلك الوقت.
أما على المستوى العربي، فهناك جهود جبارة تبذل وتنسيق محكم بين أجهزة مكافحة المخدرات في العالم العربي. وعلى الرغم من ذلك، وصل عدد المتعاطين للمخدرات بأنواعها إلى أكثر من 7 بالمائة من أفراد المجتمع في بعض الدول العربية، وهذا الرقم الكبير نسبيًا، ويعكس قوة عصابات التهريب وتغلغلها بين فئة الشباب في البلدان العربية، بهدف تفكيك المجتمع العربي من الداخل والقضاء على القيم الدينية والأخلاقية لأبناء الأمة وتحويلهم مع مرور الأيام إلى صيد سهل لتعاطي المخدرات، ثم خروج هذه الطاقات الوطنية خارج المعادلة والحيلولة دون مشاركتهم في بناء الأوطان.
يبدو لي أنَّ معالجة هذه القضية التي تأتي في المرتبة الأولى من حيث أولويات الأجهزة الأمنية العربية، وبل وحتى عامة الناس خاصة الذين فقدوا أعزاء لهم من خيرة شباب الأمة بسبب الإدمان القاتل في المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج؛ إذ أدركوا خطورة هذا الوباء الفتّاك الذي يقضي على مستقبل أجيالنا من المراهقين والشباب الذين يتعرضون يوميًا في مدارسهم؛ بل وحتى في منازلهم، للعصابات المُنظّمة التي تستدرجهم إلى التعاطي الذي يبدأ بفكرة الاستكشاف والتجربة، ثم ينتهي بالاستسلام الكامل والإدمان للمادة المخدرة، مثل: الحشيش والهيروين والجوكر والحبوب المُهَلوِسة بأنواعها المختلفة، وكذلك نبات القات الذي تمَّ تصنيفه من المنظمة الدولية كواحدٍ من المواد المخدرة والضارة في السنوات الأخيرة.
عصابات التهريب الدولية التي تعتمد على بيع هذه الممنوعات وتهريبها عبر الحدود الدولية أصبحت أقوى أكثر من أي وقت مضى، فهذه التجارة القذرة تدمِّر عقول وأجساد البشر، خاصة الأجيال الصاعدة مقابل الحصول على المال، فالمخدرات تنتقل من خلال 3 مراحل أساسية؛ أولها: الشبكات التي تقوم بزراعة هذه السموم وصناعتها في المعامل السرية في مواقع الإنتاج في العالم. ثانيًا: العصابات التي تتولى نقلها وتهريبها إلى الداخل. ثالثًا: وهي المرحلة الأخطر، التي تعتمد على الوكلاء المحليين الذين أصبحوا من المدمنين لهذه السموم القاتلة؛ إذ يوزعون ويجمعون الأموال التي يحصلون عليها من الضحايا الذين يتم استدراجهم وإقناعم بتجربة المخدر، وسرعان ما يتحولون إلى مُدمنين ومنعزلين عن الناس بسبب ضياع مستقبلهم ودراستهم؛ بل وحتى صحتهم الجسدية والنفسية.
وإذا أخذنا التجربة العُمانية في مكافحة المخدرات، يتجلى لنا بوضوح اهتمام القيادة العمانية وجهودها الجبارة في محاولة حماية المجتمع من المخدرات، فقد تم تأسيس العديد من الأجهزة ولجان العمل على أعلى المستويات. ولعل الإدارة العامة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بشرطة عمان السلطانية في مقدمة هذه المؤسسات الوطنية الرائدة المنوط بها حماية المجتمع من خطر المخدرات. ففي مطلع هذا العام 2023، نجحت شرطة عمان السلطانية وبجهود هذه الإدارة في ضبط كمية كبيرة من مخدر "الكبتاجون" في أحد المنافذ البرية للسلطنة، وذلك قبل وصوله إلى الموزعين المحليين في البلاد، وهذا يعود إلى التدريب والتأهيل العالي لفرق مكافحة المخدرات، وخاصة قسم التحريات في الإدارة المختصة. كما صدرت عدة مراسيم سلطانية سامية منذ فترة مبكرة تُحدد العقوبات الرادعة للمُهرّبين والمُوزِّعين والمتعاطين لتلك السموم والمؤثرات العقلية الخطرة على المجتمع العماني، وخاصة المراهقين الذين يتم التركيز عليهم من قبل الموزعين المحليين.
وقد واكبت هذه التشريعات- التي بدأت عام 1974 وآخرها في هذا الشهر (أبريل 2023)- التطورات المتلاحقة للجهود الوطنية العمانية لمكافحة المخدرات وتطويقها، من خلال مواجهة تلك الممارسات بمختلف الأساليب الحديثة. ولعل العقوبات التي تصل إلى الإعدام في حالة استخدام القاصر في جرائم المخدرات، وكذلك في حالة الاشتراك مع عصابة دولية لتهريب وتوزيع المخدرات في السلطنة، خير دليل على ذلك.
كما تم تشكيل لجنة وطنية عُمانية لمكافحة المخدرات برئاسة وزير الصحة وعضوية العديد من الأطباء المختصين بعلاج المخدرات ووكلاء بعض الوزارات ذات العلاقة بمكافحة المخدرات، وكذلك ضباط من شرطة عمان السلطانية وقوات السلطان المسلحة. وتختص هذه اللجنة بتنسيق التعاون بين مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية المعنية بشؤون المؤاد المخدرة والمؤثرات العقلية، كذلك تعمل على وضع السياسة العامة لاستيراد وتصدير وإنتاج وصناعة المواد المُخدِّرة والمؤثرات العقلية والاتّجار فيها. ولعل الأهم من ذلك كله، اعتماد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- الإستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية والتي تمتد من 2023 إلى 2028؛ إذ تتضمن هذه الاسترتيجية الواعدة جدولًا زمنيًا لتطويق هذه الآفة الخطيرة ومحاصرتها بكل الأساليب والطرق الحديثة.
لقد بدأت نواقيس الخطر التي تحذر من المخدرات، تدُق منذ فترة مبكرة في المدارس والجامعات العمانية والتي بالفعل يستهدفها أصحاب النفوس الضعيفة الذين يستدرجون الضحايا إلى هاوية المخدرات، وهناك مجموعة من الأسباب رصدها الخبراء الذين يدرسون هذه الظاهرة وتطورها في المجتمع العماني. وفي مقدمة الأسباب التي تتسبب في وقوع الشباب في براثن المخدرات ثم الإدمان: ضعف الوازع الديني، ومصاحبة أقران السوء، وإهمال الوالدين لمتابعة الأبناء، وغياب دور الأخصائيين الاجتماعيين والأساتذة في المؤسسات التعليمية؛ بل وجهلهم بوصول المواد المخدرة وانتشارها بين الشباب.
في الحقيقة، لا توجد إحصائيات دقيقة للمدمنين في السلطنة؛ فالجهات الرسمية أعلنت عن تسجيل 5000 حالة تعاطي مخدرات في 2015، منهم 1% من الإناث. لكن لا شك أن الأعداد في ازدياد مستمر بسبب التهريب الذي يأتي من السواحل العمانية الممتدة لأكثر من 3000 كيلومتر من هرمز شمالًا إلى صرفيت جنوبًا.
في الختام.. لا يُمكن أن يُكتب النجاح الكامل للقائمين على مكافحة المخدرات في هذا البلد العزيز، دون تعاون أطياف المجتمع العماني كافة، من أجل محاربة هذه السموم الخطيرة، كما نتطلع إلى فتح مستشفيات ومصحّات حكومية جديدة في مختلف المحافظات، وتزويدها بكوادر إضافية مدربة تدريبًا عاليًا؛ فالذين يلجأون للعلاج من الإدمان كُثرٌ، لكن الذين يتعافون منه لا يتجاوزون 20% من العدد الإجمالي فقط، حسب بعض التقديرات.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري