ألمانيا.. سحر الطبيعة

مدرين المكتومية

أحيانًا كثيرة تقودنا الحياة لأن نكتشف قوتنا، قدرتنا على اتخاذ القرارات، قدرتنا على قول "نعم" دون خوف وتردُّد، قدرتنا على السفر نحو البعيد الذي نجهله، وربما نحو عالم لم نكن نعرف عنه إلّا القليل الذي خضناه بتجاربنا الشخصية. نعم أقصد بذلك أن تكون على موعد دون أن تحضر نفسك له جيدًا، أو ربما لم تكن مستعدًا لتلك النظرة الأولى التي يُمكن من خلالها أن تقع بالحب، وتقرر في لحظة واحدة أن تبقى أكثر مما خطط، أو أن تعاود الكرَّة لأنك وجدت شيئًا مختلفًا ومغايرًا عن المعتاد.

إنني هنا وعلى الرغم من أن هذه هي زيارتي الثالثة لألمانيا، ولكن الزيارات التي سبقتها كانت لميونخ وبخيار شخصي، واليوم أكرر السفر لألمانيا التي لم أذهب بها نحو المدن التي قد يعرفها الجميع، وإنما تلقيت دعوة من هيئة سوق السفر الألماني "GTM" لزيارة مدينة "إسن Essen" سبقتها زيارة إلى مدينة "بريمن Bremen".

لستُ مِمَّن يحب الطبيعة بقدر ما أحب المدن، لكنني هذه المرة أقولها صراحة: سحرتني طبيعة بريمن الأخّاذة، ووقعت في حب غاباتها وممراتها الضيقة والأزقة المليئة بالزهور، والبيوت التي تم تشييدها بحب يتناغم مع نسق الحياة الطبيعية، إنني وبكل صراحة أرغب بزيارة أخرى لهذه المدن التي أسرتني، عشت فيها متنقلة ما بين تاريخها ومقاهيها التي تعجُّ بالناس، وإيقاع الحياة المتسارع، وبين طقسها البارد وزخات المطر التي تبللنا بين الحين والآخر.

لم تكن بريمن هي الساحرة فقط؛ بل سرقت منا ليالينا "إسن" فكنا نسهر مع إنجازاتها وفرصها كل ليلة بكل رحابة صدر، تنقلنا بين محطات المترو وبين معالمها المختلفة لنكتشف جمال "إسن" أيضا دون أن نصدق ما نرى، إننا نعيش كما نشاهد في الأفلام ونقرأ في روايات الحب، إنني ألتقط صورة لكل مكان ومعلم غير مُصدقة أنني من التقط هكذا صور، فالأماكن أشبه بلوحات ممتدة وجميلة، تذكرك بكلمات نزار قباني حين قال: "لم أعرف قبلك فاتنة هاربة من لوحة رسام، أعلنت أنا الحب عليها، ولها أعلنت الاستسلام".

وبرغم الطقس البارد، كنت أشعر أنني أعيش أجمل لحظات الحياة وأكثرها سعادة، لم تكن "إسن" فقط مكانًا لاكتشاف مدى قدرتي على الاستمتاع بقدر ما علمتني الكثير، أولًا تعرفت على الكثير من الأشخاص من الكثير من المدن المختلفة والعالم، جئنا لنفس الهدف، ولنفس المكان، واجتمعنا بقاعة واحدة وتحت سقف واحد، فقط لنتشارك ونتقاسم مع القائمين على سوق السفر الألماني "GTM" نجاحاتهم وقدرتهم على الوصول لأكبر قدر من البشر ولإيصال رسالة السياحة بشكل جميل وراقٍ، كنت برفقة كل هؤلاء الناس لأرى الكم الهائل من البذل والجهد والاجتهاد لتحقيق ما نحن اليوم نراه ونشاهده بأنفسنا، إنه النجاح الذي يشرح نفسه دون الحاجة لشرحه.

"إسن" كمحطة مترو، تقف عند كل منطقة لترى أنك لا تحتاج لدليل فكل شيء واضح ومباشر، وكلما أخذت تتعمق تجد أن في كل مرة تستبدل فيها رحلتك، أنت لا تكمل؛ بل تبدأ بقصة أخرى من النجاح المتواصل، وعندما أقول إنني تعلمت منها، نعم تعلمت أن أعيش اللحظة وأستمتع بها، تعلمت أنَّ لكل شخص بالحياة طريقته ولكل منا قصته الخاصة؛ لذلك لا علينا الالتفات لكل المحبطين من حولنا، علينا أن نستمتع بكل الحب الذي تقدمه لنا هذه المدينه وبالمجان.

إنني أكتب ما أشعر به، وأكتب لكل القائمين على هذا البرنامج لأشكرهم بالحب ذاته الذي قدموه لي منذ أن حطت قدماي أرض المطار وحتى مشارف انتهاء رحلتي التي لن تكون بالتأكيد الأخيرة، وإنما هي بداية لزيارات أخرى قادمة ومكررة، لكنني لم أنتهِ بعد؛ فالحديث يطول عنها، لكنني أكتب بالعداد المتاح لي من كلمات المقال، ومع ذلك لا يمكن أن أنسى أبدًا أنَّني وجدت الكثير من الناس الذي يبحثون عن حياة جميلة ورائعة تعلمت منهم الكثير، خاصة وأنني لأول مرة في هذا البرنامج على عكس البعض منهم تماما، الذين منحتهم الحياة فرصة التواجد مرارًا وتكرارًا في هذا البرنامج.

نحن هُنا لا نكتشف السياحة فقط، وإنما نكتشف الثقافة بكل تجسيداتها، وفن الحياة، وحب العمل، وطريقة العيش، والاستمتاع بالوقت، وقبول الآخر، كل شيء له نسقه الخاص الذي يغمرك بالسعادة، يكفي أن تكون في أي مكان وتلتفت للجهه الأخرى لترى المقاعد التي تملأ الساحات والأزقة والممرات وكلها تدعوك لقضاء وقت جميل وممتع، ناهيك عن الموسيقى التي تسمع إيقاعها في كل مكان وكأنك على موعد للرقص مع الحياة؛ فالرقص لغة أخرى من جوانب الحياة المتعددة.

إنني أكتب اليوم وأنا بالغرفة 512 بفندق شيراتون بـ"إسن"، أكتب من هذه الغرفة التي تطل شرفتها على الحياة، أسترق من خلالها النظر للمارة، والمدخنين، والذين يسيرون بحقائبهم نحو حياة أخرى، أرى كل هؤلاء وأقول في نفسي: ماذا لو قرر أحدنا يوما أن يعيش في هكذا مكان؟ ماذا لو استطعنا أن نعيش كما يعيش أبناء هذا المجتمع دون الالتفات لاختلافات بعضهم البعض؟ ماذا لو قبلنا بعضنا بما نحن عليه؟ دون أن نفكر للحظة في ماهية كل منا، وقصته، وتفاصيل حياته، وطريقته في العيش، عندها أكاد أجزم بأنَّنا سنكون قد استطعنا أن نستمتع بالحياة بكل تفاصيلها دون الخوف من ردات فعل الآخرين.