مُستلهمات الفكر

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إنّ في القلمِ لشيئا إلهيًّا يدفع الموتَ والنّسيان عن المعاني التي تُكْتَبُ إلى أجلٍ طويلٍ، كأنّ القلم ينتزعها من الإنسان الذي هو قطعة من الفناء ليبعد الفناءَ عنها"  مصطفى صادق الرافعي.

*******

كثيرًا أفكر واتساءل، ما الذي يلهم الكاتب ليكوّن فكرة الكتابة؟ ما الذي يسنفزه ليكتب؟ وهل كل إلهام هو بالضبط ذهاب للكتابة وإمساك للقلم أو الضغط على أزرار لوحة المفاتيح؟ وهل من الضروري استلهام الفكرة من أجل كتابتها، وإن لم أكتب الفكرة ما الذي سيحدث؟ وهل هناك تأثير لذلك على حالة الكاتب ونفسيته؟ وهل الكاتب هو كاتب مكلف أم كاتب هاوٍ؟ إن رأى داعيًا للكتابة كتب، والعكس صحيح.

الحقيقة الواقعية أن الكاتب هو أشبه بالشاعر، أو بالرسام التشكيلي، كلاهما يضع فكرة ما في خضم قصيدته أو لوحته، قد لاينتبه لها العامة أو يفهمها الشخص المطلع، إنما هي فكرة متكاملة الأركان وضعت داخل معنى آخر مختلف تماما، هل أحدثك عن عملية استخبارية وفك شفرات، هل أحدثك عن رسائل غير مرئية بين الكاتب ومن يقصد، تأكد أن كل شيء يحدث، الشعراء غالبا تكون الفكرة المعلنة للقصيدة مختلفة عن الفكرة الحقيقية لها أو مايسمى دفن المعنى، وهذه موجودة وبنفس الفكرة بالكتابة، هل هناك في الموضوع خداع، قطعا لا، لكنها صنعة الشعر، أو صنعة الكتابة، وهذه قد تكون المتعة الأمتع بها، هناك مقالات هي في الحقيقة رسائل متبادلة، لكن من يفك الرمز، من يقرأ مابين السطور، صعب جدا تشخيص دفن المعنى، ولايوجد له أساسا متخصصون، وهو نوع من الكتابة الأدبية عالية الشأن.

في تاريخ الأدب، قرأ الكثير رسائل كافكا، وقرأت تساؤلات فرجينيا وولف، ومكاتبات مي زيادة وبعض الأدباء كجبران والرافعي، وفي الشعر الأندلسي قصائد ابن زيدون وبنت المستكفي. الكتابة أساسًا إلهام يستلهم الكاتب، ولا تعتقد أن الكاتب لا يدخل خصوصياته الخاصة بها، بل كثير من المقالات فيها أفكار هي في الواقع ترجمة أو تحليل أو للفضفضة غير المباشرة عن حدث شخصي، تأكد بأن الكاتب صعب أن ينفك عن شخصيته الحقيقية.

من المستلهمات التي تدفعني للكتابة هي أحداث التاريخ، أو ما يحدث في الشؤون السياسبة وهنا أحدثك عن تخصصي الأكاديمي، لكني أتأثر كثيرًا بكتابات الأدب، وأجدها ليست بعيدة عن التاريخ والسياسة، في التاريخ بالذات كثيرًا ما اتفكر في أحداث التاريخ، وغالبًا أجد تشابهًا بين بعض الأحداث في الماضي أو الحاضر، وأتذكر مقولة "التاريخ يعيد نفسه"، وبالطبع العبارة ليست بتلك الدقة، إنما تداولها الناس لأن بعض الأحداث تتشابه في بعض المعطيات، وإن اختلف الزمن، وتغيرت الظروف، لذلك التشابه يكون على طريقة "يخلق من الشبه أربعين"!

إذا تمعنت في تاريخ الدولة العباسية وبالذات في عهد الخليفة هارون الرشيد، فقد بلغ نفوذ البرامكة مبلغًا تخطى حتى نفوذ الخليفة، فقد سيطروا على منافذ الدولة، ولما ذكر بيتين لعمر بن أبي ربيعة أمامه في إحدى السمرات، وكأن البيتين أيقظا الخليفة العباسي، فقام يرددهما، وبعد هذين البيتين تغير مجرى التاريخ:

ليت هندا أنجزتنا ما تعد // وشفت أنفسنا مما تجد

واستبدت مرة واحدة // إنما العاجز من لا يستبد

وقام الرشيد بإجراءات قطع دابر البرامكة، واستعاد سطوة الدولة.

لو تمعنا في قراءة صفحات التاريخ الإنجليزي الحافل، لوجدنا حوادث غيرت مجرى التاريخ في تلك البلاد الأوروبية ذات التاريخ الغابر، ولنتذكر إننا نتحدث عن بريطانيا العظمى، أو ماتسمى بالبلاد التي لاتغيب عنها الشمس، لذلك كانت أحداثها الفارقة لها التأثير المباشر وحتى غير المباشر على تلك الفترات الماضية من التاريخ.

من يقرأ تاريخ الثورة الإنجليزية سيجد المتوافقات والمتناقضات في آن واحد، من كان يصدق بأن البرلمان الإنجليزي سيقوم بعزل الملك جيمس الرابع، ثم تتوالى الأحداث ويدعو أخت الملك جيمس الرابع الأميرة ماري وهي في هولندا؛ حيث زوجة الملك وليم أورانج ملك هولندا، الذي يلبي النداء ثم يبايعه السياسيين الإنجليز والقادة العسكريين، ليصبح ملكا لأنجلترا، ومن ثم يهرب الملك جيمس الرابع إلى فرنسا لاجئا عند صديقه الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، وماجرى بعد ذلك من أحداث دونتها صفحات التاريخ.

ما سبق فكرة- او قل أفكار- حاولت بها الحديث عما يلهم الكاتب للكتابة، ومدى تأثره بسياق حياته وإسقاط ذلك على كتاباته، ولاشك هنا أتحدث عن نفسي ونفسي فقط، فما أتحدث عنه قد لا يمت بصلة لكاتب آخر فكره وطريقته وأسلوبه مختلف تماما، وقديمًا قيل: لكل شيخ طريقته.