مُحيي الدين وخليفته

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

شابٌ هندي ضعيف البنية إلى درجة الهُزال في الثلاثينات من عمره، وفِد إلينا كالمسافر عبر الزمن من عالمٍ آخر في مطلع ثمانينيات القرن الماضي للعمل مزارعًا، وبنفس الطرق التقليدية التي يعملون بها في كيرالا تقريبًا مع تشابه كبير في البيئة والمناخ الاستوائي والمزروعات والمحاصيل، باستثناء مضخة الماء لدينا والتي تعمل بنظام الاحتراق الداخلي ومفتاح ثقيل لتشغيلها يستدعي جهدًا عضليًا بطريقة التدوير.

طبعًا يصاحب اشتعال المحرك ضجيجٌ صوتي يصم الآذان ويصل مداه بعيدًا ليعم صخبه أهل المنطقة والمزارع المجاورة ليعلم من لم يعلم أنَّ وقت السقي قد حان، مع إنبعاثاتٍ كربونية خانقة وقادرة على حجب ضوء الشمس لعدة دقائق، فضلا عن تقرفص ذلك المحرك بوضعٍ مكشوف ما يسبب خطورة بالغة لكل من يقترب منه أو يلمسه وهو في وضع التشغيل، عمومًا لن نطيل في وصف ذلك المحرك العجيب الذي اعتبر في إبانه قفزة عملاقة في عالم التطور الميكانيكي مقارنة مع الأساليب القديمة لرفع الماء من الآبار بواسطة القوة الجسدية للإنسان والحيوان.

تعلم مُحيي الدين سريعًا بروتوكولات التشغيل وأهمها تعبئة الماء في مقدمة أنبوب الضخ نفسه قبل تدوير المحرك وهذه الآلية تعتمد على معادلة الضغط بين مستوى وضع المحرك المرتفع عن مستوى ماء البئر المنخفض؛ طبعًا هو لا يعلم شيئًا عن الضغط ومعادلته ولا نحن المراقبين الصغار، ولطالما تساءلت عما سيحدث إن أدرناه بدون تعبئته بالماء ولا تلوح لي سوى فكرة الانفجار بسبب ما شاهدته وسمعته من ذلك المحرك الأخضر الداكن المعادي للبيئة، ويحدث أن يصادق الإنسان عدوًا إذا ما دعته الضرورة القصوى لتقع صداقتهما القائمة على المصلحة المشتركة بين خوفٍ وحذر شديدين ونفيٍ ظاهر لمشاعر المحبة والإخاء ومع كل ذلك لن تدوم تلك الصداقة طويلًا.

تقاسم محيي الدين كما اتخيله الآن ملامح شبهٍ بينه والممثل كيانو ريفز مع فارق لون البشرة والبنية الجسدية واللغة وكل شيء، وقد عملنا جنبًا إلى جنب وبالتناوب أحيانًا مع ذلك العامل البسيط ذي النشاط الفائق؛ حيث كان بالإمكان مشاهدته في كل مترٍ مربع من المزرعة وهو يتمتع بخاصية الاختفاء والظهور بين موقعين مختلفين في نفس الوقت كالممثل نيو في فيلم "ذي ماتريكس" إلا أنه- أقصد محيي الدين- لم يكن معجبًا جدًا بزارعتنا للبرسيم "القت" والبطاطا الحلوة "الفندال"؛ كونها تتطلب مجهودًا إضافيًا في العناية والمتابعة والحصاد، كما إنها تستهلك كميات أكبر من المياه بطريقة السقي التقليدية بالمقارنة مع الأشجار الكبيرة ذات الإنتاج الموسمي والنباتات الورقية الصغيرة ذات الإنتاج السريع والوزن الخفيف، ولا يبدي اهتمامًا كبيرًا إزاء كل مزروعاتنا الأخرى من الخضار كالطماطم والكوسة والخيار والجزر والباذنجان، ولكن الفلفل الحار والبامية يأسران لُبه، وكأنما تقل الجاذبية تحت أقدامهِ تدريجيًا عندما تجذبه فرمونات روائحها عبر أنفه اللامع ليدخل في عالمٍ من السكينة والهدوء حتى ينتقل إلى أرض الوطن كليًا بمجرد ملامستها حليمات التذوق على لسانه العريض.

مع الكثير من الصِعاب في تلك المرحلة الأقرب للقروية الرعوية منها للحضرية المدنية، لم نكن نجد صعوبةً في بيع منتجاتنا عندما كانت الهيئة العامة لتسويق المنتجات الزراعية (سابقًا) تستقبلها كلها، وتشتريها من المزارعين بأسعارٍ جيدة ومضمونة، وكان الرصيف الذي توضع عليه المحاصيل لوزنها وتسعيرها يغص بالمنتجات المحلية عالية الجودة، ولم نكن نسمع بشيء يسمى "غش"، فقد كانت ثقافة المزارعين السابقين لا تقبله إطلاقًا، فضلًا عن الأمانة والخوف من الحرام وحتى شُبهاته.

ويراقب الوافد محيي الدين الأحداث عن كثب وغير كثب وهو سريع التعلم وجيد التقليد مع أُميته الصارخة. صحيحٌ أنه لم يكن يستنبط حلولًا ذكية أو تطويرًا مبدعًا وخلاقًا بعد عامين كاملين قضاهُما في نفس العمل إلا أنه يعتمد مبدأ تكرار التجربة والفشل وقد يستروح إحدى تجاربه باعتبارها الأقل فشلًا، كربط مقبض منجل قص الحشائش المكسور بسلكٍ كهربائي وطرق المسمار بالحجر لتثبيته، وتعتبر المطرقة والبراغي والصواميل ومفكاتها استخداماتٍ متقدمة فيدفعه حذره لتجنبها والبعد عنها، وما أغرب نظرته الجانبية عندما لمعت عيناه شدهًا وإعجابًا بآلة رش المبيدات الحشرية اليدوية المحمولة على الظهر والتي قامت الوزارة آنذاك بتوزيعها على بعض المزارعين، ولم يستوعب مقاييس المواد الكيماوية المخصصة للرش ولا خلطاتها.

في هذه الأثناء يصل مناور، وهو وافد جديد لا يختلف كثيرًا عن سابقه، إلا أنه أكثر ميلًا للكسل مع شدة ذكائه وإجادته للقراءةِ والكتابة والأعمال اليدوية بإتقان، كما أنه جيدٌ جدًا في التعامل مع الماشية من ناحية إطعامها والعناية بها وتوزيع ألبانها على الأهالي في البيوت المجاورة. وهنا يبدأ تنافس إثبات الوجود بينه ومحيي الدين على الموارد المتاحة والصلاحيات ونيل ثقة الكفيل، مع تراجع اهتمامنا بالزراعة لانخراطنا بالدراسة في مرحلة الثانوية العامة، ومع ازدياد عدد الوافدين وظهور محالٍ تجارية صغيرة وجديدة تستقبل المنتجات الزراعية بشكل سريعٍ ومباشر من العمال الوافدين دون المرور ببرزخ الفحص والاختبار، وانحسار دورنا لتحول رؤيتنا المستقبلية إلى التفكير بالوظيفة المريحة جسديًا- كما تبدو- وإن كانت غير ذلك نفسيًا وماديًا.

لقد لامستْ السنون مفاصل أجساد الرجال الذين كانوا يُديرون تلك المزارع القديمة فأوهنتها وطرحت منهم من أعيت، ومُسجًا غير قادرٍ على الحراك ومنهم من توفاه الله، ومع إلغاء الهيئة العامة لتسويق المنتجات الزراعية يُسدل الستار على فصلٍ مهم ويرفع مجددًا على فصلٍ آخر لا يقل أهمية؛ إذ يبرز تراجع بعض المقومات التي ساهمت سابقًا في إنجاح الزراعة، لتبقى المزارع ساحة لعبٍ خفية مكشوفة الظاهر وتنقسم على مجموعاتٍ كبيرةٍ جدًا من الورثة، وبات الوريث الواحد منهم لا يمتلك منها شكليًا إلا أمتار معدودات، وهي تتفتت تدريجيًا من حيث التملك وتندثر من ناحية الاهتمام، ولا يمكن لتلك المجموعة الكبيرة من الورثة المُلاك إدارتها معًا ما لم يُرشح منهم قائمٌ عليها يعتني بها عناية جيدة ويدير مواردها بطريقة فعالة لتؤدي دورها وتعود بمردودها على الجميع وقليلٌ منهم من يفعل ذلك.

لم يعد محيي الدين موجودًا في المزرعة كعامل بسيط مع منتصف التسعينيات إلى نهايتها؛ إذ إنه تطور إلى نسخة حديثة وانتقل للعمل سائقًا في إحدى الجهات الحكومية، وقد طور أعماله في سيارته الخاصة وما زال يزور المزرعة بين الحين والآخر ليذكرنا بمناقب كفيله الراحل، وليطمئن على سير الأحداث والأعمال في هذا الجانب من المزرعة، وهو بلا شك يقوم بنفس الزيارة لعدة مزارع. وفي جانب آخر يقوم خليفته مناور بالإدارة على رأس مجموعة كبيرة من أشباه محيي الدين نسخة الثمانينيات، وقد اختفت الكثير من الأشجار الكبيرة المُعمّرة التي زرعها الآباء والأجداد كالجوافة والصبار "التمر الهندي" والبيذام والنبق وغيرها، لإتاحة مجالٍ أكبر لزراعة النباتات الورقية الصغيرة والتي لا تتطلب جهدًا كبيرًا فضلًا عن الطلب المتزايد عليها في السوق مثل الفجل والخس والملفوف والجرجير والنعناع والكزبرة وغيرها، وتبدو للمستهلك وهو المستهدف الأول غضةً يانعة مشرقةً في منتهى البهاء، وهناك في الجانب الثالث يتفاوض بعض الورثة لبيع حصتهم من الأرض لمالكِ جديد ويبدأ هو بدوره اهتمامه على المستوى الشخصي كما فعل المالك السابق قبل مئة عام، وتعود الدورة مجددًا مع المالك الجديد ومحيي دينٍ جديد.

يقول العلّامة عبدالرحمن بن خلدون في علم العمران: "إن المجتمعات تسير حسب قوانين محددة وقد تسمح هذه القوانين بالتنبؤ بالمستقبل".