أمريكا في نفق الأزمات

حاتم الطائي

◄ الأزمات في أمريكا دائمًا معقدة ومُركبة.. و"الحلم" يتحول إلى كابوس

◄ "فضيحة ترامب" تؤكد الطبيعة المتأزمة للمشهد السياسي الأمريكي

◄ أمريكا تعيش إرهاصات أزمة بنيويّة عنيفة.. والتداعيات ستؤثر على العالم بأسره

تُعاني الولايات المتحدة الأمريكية- دولةً وحضارةً- من أزمة أخلاقية مُزمنة، أزمة تحملُ في باطنها العديد من الأزمات، كبرت أو صغرت، لكنها تظل تصطبغ باللاأخلاقية في كثير من جوانبها، وهذا مُؤشر واضح على طبيعة النموذج الحضاري الأمريكي، ذلك النموذج الذي يعتمد في أساسه على فلسفة صناعة الأزمات، في الداخل والخارج، كي يظل الساسة يبسطون سطوتهم على المشهد المحلي، ويهيمنون بنفوذهم على المشهد الدولي.

الأزمات في أمريكا دائمًا مُعقدة ومُركبة، ولا نجد أزمة إلّا وهي مرتبطة بأزمة أو أزمات أخرى؛ سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى أمنية وعسكرية! الولايات المتحدة ومنذ بزوغ نجمها كدولة عظمى تتحكم في السياسة الدولية وتحتل مركز الصدارة العالمية اقتصاديًا، تقدم نفسها على أنها "النموذج الحُلم"، ومن مِنّا لا يعرف "الحلم الأمريكي"، غير أنَّ هذا الحلم وعلى مدى العقود الأخيرة، تحوّل إلى كابوس، فأمريكا هي المحتل الغاصب للعراق وأفغانستان، وأمريكا هي الداعم الأول والأساسي للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وأمريكا هي صاحبة الترسانة العسكرية التي تُعربد في شرق وغرب العالم، وأمريكا هي السياسات الاقتصادية والمصرفية المُتخبطة التي تتسبب في انهيار الاقتصاد العالمي كل بضع سنوات، وأمريكا هي نموذج الصراع السياسي بين ديمقراطيين يريدون فرض رؤيتهم الذاتية على العالم، وجمهوريين باتوا يمثلون الشعبوية في أسوأ صورها.

آخر أزمات أمريكا على المستوى السياسي، فضيحة دفع الرئيس السابق دونالد ترامب لرشوة انتخابية إلى مُمثلة أفلام إباحية مُقابل سكوتها وعدم الحديث عن علاقة آثمة أقامها معها في غرفة فندقية. ولمن لا يعرف القوانين الأمريكية لا تعاقب أو تحاكم مسؤولا- حتى لو كان رئيس الدولة- بتهمة ممارسة الجنس، لكنها تُحاكمه بتهم أخرى مُرتبطة بمسألة الكذب أو استغلال النفوذ أو إساءة استخدام أموال الحملات الانتخابية، وغيرها من التهم. وهذا ما حدث في قضايا عدة، أذكر منها فضيحة "ووتر جيت" التي دفعت الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة ليكون أول رئيس أمريكي يستقيل من منصبه خوفًا من الإقالة، وكذلك فضيحة مونيكا لوينسكي مع الرئيس بيل كلينتون، والقضية المُثارة حاليًا مع الرئيس السابق دونالد ترامب.

كل هذه الأزمات تكشف طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأمريكي، القائم على الأزمات، والتي تمثل الوقود لكلا الحزبين الرئيسيين لكي يستندا عليها من أجل تحقيق الغلبة والنصر السياسي في الكونجرس وفي البيت الأبيض. ونحن هنا عندما نتحدث عن أزمات النظام الأمريكي، لا نتطرق مُطلقًا إلى مسألة العدالة والمحاسبة وحكم القانون، لأنه لعل من أبرز الجوانب المُضيئة في الحضارة الأمريكية، أنها رسخت مفهوم دولة القانون، حتى ولو كانت القوانين ظالمة أو سيئة السمعة، فهذه قضية أخرى.

الولايات المتحدة اليوم تعيش إرهاصات أزمة بنيويّة عنيفة لن تقل خطورتها عن تلك التي عاصرتها إبان خسارة الرئيس ترامب للانتخابات أمام غريمه الديمقراطي جو بايدن الرئيس الحالي، عندما اقتحكم مؤيدو ترامب مبنى الكابيتول- حيث مقر الكونجرس- لأوَّل مرة في التاريخ، وقيل وقتها إن الديمقراطية الأمريكية سقطت! فبعد صدور لائحة الاتهام بحق ترامب، شاع اعتقاد بأنَّه سيتم إلقاء القبض على ترامب، ما زاد من مخاوف خروج أنصار ترامب إلى الشوارع للاحتجاج وربما ارتكاب أعمال شغب وعنف، على غرار ما وقع في حادث اقتحام مبنى الكابيتول، ولذلك رفعت الشرطة في نيويورك وواشنطن العاصمة ولوس أنجليس درجة الاستعداد والتأهب الأمني، تحسبًا لأية اضطرابات أو تهديدات تمس الأمن العام في حال اندلاع احتجاجات عنيفة.

اعتقال ترامب أمر وارد؛ بل إنَّ الحكم بسجنه لا يمكن استبعاده، لكن ما يعنينا في هذا السياق، أن الأزمات الآخذة في التزايد بالولايات المتحدة، توضح بالدليل القاطع أن أمريكا العظمى لم تعد كذلك، وأن عصر الاضمحلال السياسي والاقتصادي للولايات المُتحدة قد بدأ منذ سنوات، ونقترب رويدًا رويدًا من ذروة هذا الاضمحلال، إذا ما وضعنا في عين الاعتبار الأزمات الاقتصادية والمصرفية المتلاحقة التي باتت تحدث كل 8 إلى 10 سنوات، إلى جانب الصعود الواضح للصين، ولا أدل على ذلك من دورها المتنامي الإيجابي في الشرق الأوسط، وسعيها لأداء دور محوري في الأزمة الأوكرانية، التي تعد أوسوأ أزمة عالمية حتى الآن. هذا فضلًا عن الدور الروسي الذي تعاظم تحت قيادة فلاديمير بوتين، رجل الكرملين القوي الذي لا يخشى الناتو ولا الغرب بأكمله، وما الحرب الدائرة في أوكرانيا إلّا تأكيد على أنَّ أمريكا وحلفاءها الغربيين غير قادرين على مواجهة بوتين، حتى بعد قرارات نهب الأموال والاستثمارات الروسية في الخارج، تحت زعم "المُصادرة"، وكأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على إخفاء حقيقة أنها تحكم في مثل هذه الأمور بقانون الغاب!

وإلى جانب الاضمحلال السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة الصراعات السياسية وفضائح الساسة والأزمات الاقتصادية، فهناك اضمحلال اجتماعي، ومؤشر ذلك معدلات الجريمة وتجارة المخدرات وحوادث القتل الجماعي التي تتكرر بين الفينة والأخرى، والعنصرية المتزايدة تجاه الأقليات لا سيما السود، الذين يتعرضون كذلك لحوادث عنصرية قد تزج بهم في السجن أو تقضي على حياتهم نهائيًا، ولنا في قضية جورج فلويد دليلًا قاطعًا.

ويبقى القول.. الولايات المتحدة تتخبط منذ سنوات في نفق طويل من الأزمات الداخلية والخارجية، أزمات تعكس تأثير القرارات السياسية والاقتصادية على مستقبل هذا البلد، وتؤكد ضرورة دعم قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، فلا يجب أن تظل مقولة "عندما تعطس أمريكا يصاب العالم بالزكام" صالحة في كل زمان، فقد آن الأوان لنظام عالمي متعدد الأقطاب أن يسود، ويدعم جهود استعادة السلام والاستقرار لهذا العالم، عبر بناء شراكات ممتدة مع مختلف الدول، وترسيخ نموذج التكتلات الاقتصادية المتنافسة من أجل مصالح الدول وصالح الشعوب، وليست التكتلات التي تهدف إلى نهب وسرقة الشعوب والدول، عندئذٍ سيتحقق ما يصبو إليه الجميع؛ السلام والرخاء والازدهار للإنسانية جمعاء.