نحيز.. ضجيج الصمت

علي بن سالم كفيتان

لطالما شكل الوادي مثار اهتمام الكثيرين، ليس لجمالياته الطبيعية فحسب؛ بل للروح التي يبعثها إلى كامل التراب الأصيل، فوسطيته تأخذ موقع القلب في الجسد؛ حيث حمل الزمن أهله وقاطنيه مسؤوليات جسام، فحملوها بشرف وعضوا عليها بالنواجذ لكيلا تموت المروءة من ظفار، فشكل وادي نحيز الضجيج الصامت، فكل نازل إليه يحس بهيبة المكان والإنسان معًا، وعندما تبحث عن وجه أصيل ونفس هانئة وسمو للأخلاق والقيم تجدها مع رجال ونساء نبتوا في ثرى هذا المكان.

في نحيز يُروض العاصي ويُنصر المظلوم ويُعطى المحروم؛ حيث مجالس الرجال ومورد السنن والسوارح المستوحاة من الأعراف الاجتماعية، التي تجد مكانها منذ زمن غابر. من جنباته تنفح أكاليل الخزامى والنفل، وفي ساحاته الواسعة تزهو غابات السدر ويعج المشهد بأريج الماضي الأصيل، وهنا قد يسأل القارئ: ما الذي جعلني أكتب عن نحيز وأنغمس في ذاتها الخالدة؟!

لقد أخذتني سيارتي متجولًا ذات مساء إلى جبال ظفار، ولم أشعر إلا وأنا في حضرة المكان الذي زرته مرات لا تحصى ولا تعد، لكن ظرفية الوقت والشعور بالحنين أخذتني بعيدًا إلى موطن الرجال المرتدين لصبائغهم النيلية، الذين باتوا يغادرون الوادي  بصمتٍ. فقد حضرت عزاء أحدهم قبل بضعة أسابيع في جامع السلطان قابوس، فاكتظت ساحات الصلاة الداخلية وتوافدت الجموع المودعة للرجل النبيل، لتصلي في الخارج. كتبت مقالًا عن الحدث في ذلك اليوم، لكنني كنت بحاجة للحج إلى الوادي وهذا ما حدث دون إعداد مسبق، ليشكّل الإحساس بالفقد والشعور بسمو المكان لوحةً لا يمكن تجاهلها؛ فزُرتُ الديار وصليتُ في الجامع الكبير الذي يتوسط نحيز، وفي طريقي إلى الأعماق وجدت سواقي معلقة، وآبارًا مُعطّلةُ تدل على نشاطٍ بشري يعج بالحيوية. سألت رجلًا عابرًا مع إبله عن اسم العين التي تغذي هذه السواقي في الماضي، فقال لي إنها عين إكسوت. لا ادري لماذا لم يذكر الرحالة والمستشرقون والمؤرخون ذلك المكان النادر؟

تذكُر أحاديث السير المتواترة أن أحد حكام ظفار في الزمن الغابر أراد أن يُعمّر قصره المنيف في مدينة الرباط حاضرة ظفار في تلك الحقبة، فوصفوا له أشجار نحيز الكثيفة وجذوعها الصلبة وأطولها الفارعة، فطلب أن يزور المكان مع النجارين والعمال وقوافل الإبل التي سوف تحمل الأخشاب، فطلع المحمل إلى أن استقر في وسط الوادي، فسُمع صوت المناشير وهي تجتث الأشجار فأخبر الأهالي شيخ المكان الذي حضر وتخاطب مع هذا الحاكم بأن عليه أن يعود أدراجه ويترك الوادي. وفي ظل زهو الرجل بحاشيته رفض عرض الشيخ، فأغار عليه سكان الوادي ولقي حتفه في هذه الحادثة، كما توثق الذاكرة الجمعية وبعض الإشارات التاريخية.

في مدخل وادي نحيز من جهة السهل، توجد قرية أثرية منسية بها آثار لبئر عميقة ومخازن ومباني داثرة، تذكُر الرواية الشعبية أنها تعود لأحد حكام الدولة المنجوية في إطار إصلاحاته الزراعية الواسعة في ظفار. وفي الطريق صعودًا إلى الوادي، يوجد "كهف صحور" الشهير الذي زارته معظم البعثات الأثرية، ويحظى باهتمام بيئي وجيولوجي واسع. كُتب لي أن أزوره قبل عقدين مع كوكبة من المختصين البيئيين بتوجه سامٍ من السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وتقديم دراسة وافية لجلالته آنذاك. كان الوقت خريف والأرض زلقة تمامًا، فقد كان المشهد درامتيكيًا، فقد تزلج أعضاء البعثة في كل الاتجاهات، وأمام إصرار الدكتور صادق المسقطي في الوصول للموقع نُفِّذت المهمة حبوًا. لقد ذكر المستشرق "بينِت" وجود آثار ثمينة في أحد الكهوف ضمن زيارته الشهيرة لظفار، يقال إنها معروضة اليوم في إحدى المتاحف الغربية.

كما تم رصد قرية حجرية في منطقة حجيف التي تقع إلى الشمال من وادي نحيز باتجاه المنطقة الانتقالية التي تسمى محليًا "قطن"، ويطلق عليها البعض قرية الأهرامات الحجرية؛ حيث كانت تستخدم لحماية النساء والأطفال وكبار السن من حيوان أسطوري غريب يسمى "سيلول"، والبعض يرى أنها عبارة عن مخازن لُبان ومنطقة لتمويل القوافل المتجهة شمالًا إلى طريق اللُبان المتجه إلى واحة أوبار في بادية ظفار، ومنها إلى شمال جزيرة العرب، إلى مهد الحضارات القديمة في روما وبلاد ما بين النهرين، في حين ذكر البعض أنها عبارة عن مدافن للموتى.

كل هذه المشاهد التي ترتبط بالوادي وتدور حوله، تجعل من الأهمية بمكان إلقاء الضوء عليه، والاهتمام بمقوماته الطبيعية والاجتماعية والتاريخية... وحفظ الله بلادي.