مؤيد الزعبي **
لم نختَرْ لون عيوننا، ولم نختر لون بشرتنا ولا طولنا ولا حتى كتلتنا الجسمية، ولم نختر أن نولد بأمراض مزمنة أو إعاقات حركية أو خلقية، فما الذي يخطط له علماء هندسة الجينات لنتحكم بكل هذا وأكثر، وهل سنتمكن من اختيار مواصفات الأجنة في بطون النساء أو نجري تعديلًا في أحماضنا النووية لنحسن من صفاتنا البشرية؟ أم سنقلب السحر على الساحر ونطرق الباب الخطأ في مثل هذه المحاولات؟، في هذا الطرح سوف نتعرف معًا عزيزي القارئ على الهندسة الجينية بين الاستعمالات المجنونة والفوائد العظيمة.
قبل سنوات لم نكن نتخيل أن يتلاعب البشر بالأحماض النووية لخلايا النباتات لتحسين صفاتها وقدرتها على تحمل الظروف البيئية المتغيرة، ولم نكن نتوقع أن ننجح في فك الشيفرة للخلايا الحيوانية لنحسن من نسلها أو توجيه القوة الإنتاجية الحيوانية لخدمة مصالحنا كبشر أو لتلبية احتياجاتنا، ولكننا فعلنا واستطعنا إيجاد أنواع نباتات قادرة على التكيف مع الظروف القاسية وحيوانات بلحوم سمينة تلبية احتياجاتنا، وإلى الآن مازلنا في النباتات والحيوانات، فماذا عن البشر هل يمكننا استنساخ النموذج والطريقة؟
لست متخصصًا في علم الأحياء ولا أدعي ذلك بتاتًا، لكن طالما أن الفكرة موجودة وقابلة للتطبيق وهناك من يعمل عليها بشكل مكثف، فسنجدها حاضرة أمامنا في قادم السنوات. صحيحٌ أن التحرير الجيني ممنوع في العديد من البلدان ولكن هذا لن يوقف الزحف؛ فالإنسان يرى في نفسه العيوب وإمكانية تعرضه للأمراض سواء عند الولادة أو خلال حياته، ويجد في هذا مشكلة يجب حلها، وطالما يمكن حلها فلم لا؟! فعندما يتطور العلم ونصبح قادرين على تعديل جيناتنا البشرية للحماية من الأورام والسرطان وأمراض القلب، أو الحماية من التشوهات الخلقية فأجد أن مثل هذه الهندسة مفيدة جدًا.
ما هو مُخيف في هذا الأمر أننا كبشر نستهين كثيرًا ولدينا طموحات وأحلام قد تتغلب على قدرتنا على فهم النتائج العكسية لمثل هذه العلوم، فلو أصبح التحرير الجيني متاحًا في العيادات والمستشفيات لوجدت الناس تقف في طوابير لتعديل جينات أولادهم ليُحسنوا من نسلهم باختيار ما يرونه "مثالي" من شكل ومضمون في خلفتهم الجديدة. وفي المستقبل سوف يكون الفرق بين الأغنياء والفقراء ليس فقط الفروقات المادية؛ بل القدرات العقلية ونسب الذكاء؛ فالأغنياء سيخضعون أولادهم لتعديلات جينية تجعلهم أكثر قدرة ذهنيًا وحركيًا عن أولاد الفقراء، وهنا تكمن الفجوة الأولى والمشكلة الأولى التي سنواجهها مستقبلًا.
ربما أخذنا الخيال العلمي من خلال الأفلام لتصوير بعض الأخطاء في مثل هذه التلاعبات في خلق إنسان بقدرات لا يمكن السيطرة عليها، أو ظهور أعراض غير مفهومة مع مرور الزمن، وهذا الأمر وارد أيضًا وهنا المشكلة الأهم في مثل هذه العلوم، وعلى جانب آخر لو لم نجرب وندخل في مثل هذه التجارب فلن نستطيع معرفة هذا النوع من الهندسة والذي يمكن أن يحمي الملايين من الأمراض ويلغي معاناة أطفال وأسر.
إذا تعمقنا في النظر لعلوم الجينات الحديثة، فسنعلم أننا أمام مفترق طرق، طريق يمكن أن يؤدي لحياة أفضل نسبيًا بعد القضاء على بعض الأمراض جينيًا أو الكشف عنها وعن احتمالية الإصابة بها مبكرًا، والطريق الآخر في الوصول لحالة من التلاعب غير المدروس لتحقيق رغبات شخصية بأن نكون أجمل وأطول قامة وأطول عمرًا وأكثر شبابًا. ونحن كبشر سنخوض التجربتين لا محالة؛ فهذه العلوم في تطور كبير، ولكن من سيُسيطر على نتائجها هو التشريع الحقيقي لمثل هذه العلوم ومنع استخدامها ضمن نطاق العبث والتجربة غير المدروسة.
بالنسبة لي.. أجد أن الهندسة الجينية هندسة علمية يمكن أن تحسِّن حياتنا، وتزيل عنا عناء الإصابة بالأمراض شأنها شأن بقية العلوم الصحية، ولكن ما أخشاه أن ينحدر البشر وراء شهوانيّة حصولهم على الأفضل وأن يستمروا في النظر للإنسان بنظرة النقص التي تحتاج لتعديل جذري يطيل عمره ويجعله أكثر قوة ويُكسبه قوة خارقة. وهذه المخاوف بقدر ما هي خطيرة إلا أن العالم في محاكاته الحالية يتجه لهذا الاتجاه، والأصعب من هذا كله أن هناك محاولات لدمج التكنولوجيا بالتعديلات الجينية بحيث نجد إنسانًا لا تعرف هل هو بشر أو آلة من تداخل تركيباته ومكوناته، وهذا النوع من البشر يجد فيه البعض مستقبلنا البشري الذي نجهل إلى أين سوف يأخذنا وإلى أي شط سيرسو بسفينتنا كبشر، فهل سيغرقنا أو ينجينا من طوفان العلم والعبث بخلقنا وخلقتنا.
** المنسق الإعلامي ومنتج الأخبار لصالح مجموعة الصين للإعلام- الشرق الأوسط