أزمة البنوك العالمية

 

علي الرئيسي **

 

يبدو أن أزمة البنوك تتواصل، فبعد انهيار بنك سيليكون فالي في كاليفورنيا وبنك سيجنتشر في نيويورك، انهارت في تعاملات الإثنين الماضي أسهم بنك فيرست ريبابلك في سان فرانسيسكو، خاصة بعد انتشار خبر أن البنك بحاجة لمزيد من التمويل رغم الـ30 مليار دولار التي تم إقراضها للبنك.

تعمقت أزمة المصارف للأسبوع الثاني، إذ أعلنت وكالة ستنادرد آند بورز للتصنيف الائتماني عن خفض تصنيف بنك فيرست ريبابلك إلى مستوى "Junk"؛ أي أنه دون مستوى الاستثمار. وقالت الوكالة إن البنك الذي عادة ما يتعامل مع العملاء الأغنياء، يواجه مشكلة سيولة، خاصة مع سحب ودائع كبيرة من البنك. لذلك أعلنت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع عن تغطية معظم ودائع زبائن البنك حتى أولئك الذين تتجاوز ودائعهم 250 ألف دولار أمريكي.

يحاول البنك المذكور طمأنة عملائه بأنَّ البنك لن يواجه مصير بنك سيليكون فالي أو بنك سيجنتشر، خاصة بعد أن قام عدد من البنوك، بما فيها جي بي مورجان تشيز، وسيتي جروب، وجولدمان ساكس، وبنك أوف أمريكا، بتدبير قرض للبنك بمبلغ 30 مليار دولار. غير أن أسهم بنك فيرست ريبابلك، خسرت حوالي 80% من قيمتها السوقية، كما إن 70% من ودائع البنك غير مؤمنة. ومعظم قروض البنك عبارة عن قروض عقارية أو شخصية حسبما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، وبالتالي من الصعب تسييل هذه القروض بسهولة. ورغم التطمينات الحكومية بأنه سيتم تأمين معظم ودائع البنك، شهد البنك سحب الكثير من الودائع؛ حيث قُدِّرَ مبلغ الودائع التي تم سحبها بـ 70 مليار دولار، وذلك منذ أن انهار بنك سيليكون فالي.

لقد استعان بنك فيرست ريبابلك- حسب بعض التقارير- بأحد بنوك الاستثمار لتقديم المشورة في الخيارات المطروحة أمامه، غير أنَّ وجود عجز في حسابات البنك يقدر بنحو 25 مليار دولار يمثل عقبةً أساسية في الوصول إلى أي تسوية.

من ناحية أخرى، استطاعت السلطات الرقابية التخلص من مشكلة بنك "كريديت سويس" أحد البنوك المهمة في سويسرا، والذي كان يعانى من خسائر كبيرة منذ حوالي عامين على الأقل. وقد قام بنك "يو بي إس UBS" بالاستحوذ عليه بمساعدة من السلطات الفيدرالية السويسرية بمبلغ 3.25 مليار دولار أمريكي. وبنك كريديت سويس يختلف عن البنوك الأمريكية الإقليمية متوسطة الحجم التي انهارت، من حيث انكشاف مؤسسات وعملاء من دول الخليج على هذا البنك السويسري؛ إذ إن هذا الانكشاف قد يكون عاليًا؛ نظرًا لأن سويسرا- حسبما هو معروف- تعد أحد الملاذات الآمنة للوادئع والاستثمارات من الدول النامية، نظرًا لما تتمتع به سويسرا من سرية الحسابات المصرفية. لذلك يتطلب من البنوك المركزية الطلب من البنوك والعملاء الخليجيين؛ سواء مؤسسات سيادية أو خاصة، الإبلاغ عن انكشافهم وخسائرهم من جراء بيع البنك المذكور.

وتظهر التقارير الإخبارية أن من ضمن شروط الاستحواذ على البنك، أن مالكي سندات "كريديت سويس" البالغة حوالي 17 مليار دولار لن يحصلوا على أي جزء من قيمة هذه السندات، بينما حاملو أسهم البنك لن تلحق بهم أية خسائر، وهو أمر غريب للغاية، مما اضطر بعض حاملي السندات إلى تقديم شكاوى في المحاكم السويسرية.

وبعث عدد من الحكومات الأوروبية وكذلك المؤسسات الرقابية الأوروبية برسائل طمأنة للمستثمرين والمودعين مفادها أن وضع البنوك في القارة العجوز مستقر، ولا يوجد تخوف من انهيار للبنوك، كما حصل في عام 2008؛ وهذه الرسائل انعكست إيجابًا على الأسهم الأوروبية والآسيوية أيضًا. وأعلن كل من الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي في كندا، وبنك إنجلترا، والبنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان المركزي، والبنك المركزي السويسري أنهم سيرفعون من كميات السيولة اليومية المتوفرة لعمليات المقايضة بالدولار "US dollar swaps".

ومنذ أن قام الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، بلغت الخسائر غير المتحققة للبنوك كنسبةٍ من ودائعها معدلات ملحوظة، وزيادة هذه الخسائر تعني أن المصارف ستعاني لكي تدفع ودائع عملائها. وبنهاية العام الماضي بلغت الخسائر غير المُتحققة للبنوك الأمريكية أكثر من 600 مليار دولار، وذلك نتيجة لرفع أسعار الفائدة حسبما نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

هذه الخسائر لا شك أنها ستمتص ثلث ما يسمى بدعامة رأس المال "Capital Buffer"، ومهمتها حماية المودعين من الخسائر، وكلما كانت هذه الدعامة أقل كان احتمال تكبد المودعين للخسائر أكبر، علاوة على أن احتمال تخارج المستثمرين والعملاء من البنك تتزايد. ورغم أن الخسائر غير المُتحقَقة والتي قُدِّرَت بحوالي 600 مليار دولار هي ضد بعض الأصول، إلّا أن دراسة أعدها عدد من الباحثين، تُقدِّر الخسائر المحتملة بـ1.7 تريليون دولار!

فهل هناك ضحايا جُدد من البنوك أم أن الأزمة ستتوقف؟! لا شك أن هذا الوضع سيجعل من مهمة البنوك المركزية في رفع سعر الفائدة لمكافحة التضخم أمر أكثر تعقيدًا.

هذا يُعيدنا إلى ما كتبه كارل ماركس قبل 200 عام في توصيفه المُحِق للرأسمالية، عندما قال إنَّ الأزمات "مسألة بنيوية في النظام الرأسمالي"، وأن "الرسمالية تحمل بذور فنائها في داخلها".. فهل ذلك عائد إلى الإنتاج الزائد؟ أم إلى انخفاض في معدل نسب الأرباح؟ أم أنه "التدمير الخلّاق للرأسمالية"، كما زعم الاقتصادي النمساوي الأمريكي الكبير جوزيف شومبيتر.

** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية