قوة المعلومة

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

عندما أشاع خبير المستعمرات اللورد كرومر إبان الاحتلال البريطاني لمصر أن اللغة العربية ليست لغة علمٍ ومعرفة مهدهدًا برأسه على غير قناعة حقيقية كما نحسبها، ورغبةً في الترويج للغته الإنجليزية مع تناقضاتها بين نطق الكتابة وكتابة النطق، طاروا من هم حوله بإشاعته الخافقين مع أنهم "ألو قوةٍ وألو بأس شديد".

لكن المرحلة كانت أقرب للفراغ السياسي؛ حيث يمور الجهل تحت أقدام سوادها الأعظم ويعصف بها تكالب القوى الغربية التي استفاقت من ظلام السحر والشعوذة إلى نور العلم والمعرفة، ولم يكن هناك من يقول للمبعوث "سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين"، واتخذت مقولته وجهين أحدهما أكثر ترجيحًا وهو توطين ثقافة السيادة للإنجليزية وما زلنا إلى اليوم نئن تحت وطأة ذلك الالتباس، وفي المقابل لم يُعاني كبار مصنعي الأجهزة والتقنيات والإلكترونية والسيارات من تلك العقدة، عندما اعتمدوا اللغة العربية في صناعاتهم لغرض فتح منافذ تسويق جديدة وكسب شريحة عملاقة من المستخدمين؛ بل واتخذت بعض كلمات اللغة العربية طريقها لتصبح مفهومًا معياريًا في عالم التقنية، ونشطت شركات التصنيع واشتد تنافسها علينا والكل مستفيد، بينما كان اللورد كسولًا لا يرغب في تعلم العربية ليكون هو المستفيد، فاتخذت إشاعته انطلاقة مهد الطريق لها قوة مركزة. ولذلك تعد قوة المعلومة مكافئة لقوة السلطة؛ إذ تصبح أكثر ثقةً وقبولًا إذا ما صدرت عن شخصية اعتبارية لها وزنها في المجتمع المحلي أو الدولي، أو عن جهة عُرفت بمصداقية البحث والتقصي وبات اسمها موازيًا لتلك السُمعة، فإشاعة واحدة من إيلون ماسك أو مارك زوكربيرج كفيلة بخفض أسهم شركات ورفعها.

لا بُد أن الهدهد الذي علمه الله مخارج الخبء قد نقل عددًا كبيرًا من الرسائل وتطلب منه وقتًا طويلًا بين ذهابٍ وإياب ولكن القرآن تجاوز ذلك سريعًا وانتقل إلى اختزال الفكرة فيما يُشبه التصوير الآني والمباشر للمخاطبات حتى التوافق بين ملكة سبأ وسليمان بعد غضبته الشهيرة، وما كان ذلك ليحدث لولا النقل الصحيح للمعلومات بين الطرفين بواسطة الناقل الأمين، وعليه فإن مصدر المعلومات لابد أن يكون مطلعًا جدًا وذكيًا ويتمتع بالكفاءة اللازمة التي تؤهله للتصريح والتعميم في نشر ونقل المعلومة وهذا الأمر بديهي ويعتقد به كل إنسان ذي حسٍ قويم سواء كان متعلمًا أو غير ذلك، كما يجب أن يتحلى مصدر المعلومة بالثقة والشجاعة اللازمة التي تؤهله لتحمل المسؤولية وقبول ما قد يترتب عليه من ردود أفعال كالرفض والتشكيك والاستنكار والامتعاض.

لقد تطلب خبر فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح 3 أشهر ليصل إلى أوروبا لتصدم بسقوط حصنها الشرقي المتين على يد نخبة الانكشارية ولكننا أوجدنا اليوم أنظمة وآليات بالغة السرعة في نقل المعلومات مع علاتها مقارنة بالخمسة عقود الماضية فقط، بحيث لا يتطلب الأمر سوى عدة دقائق لنقل الخبر من أقصى الأرض إلى أقصاها  من خلال الربط الشديد والمعقد لتقنيات الاتصالات، وتغيرت المفاهيم القديمة كليًا بعد أن كانت سرعة السحاب في الانتقال مضربا للأمثال وسرعة الحيوانات والطيور هي الحد الأقصى لسرعات النقل؛ حيث كان المقياس باليوم والليلة والشهر، وانتقلنا إلى سرعات ومقاييس لولا أنها موجودة فعليًا لكان أبسط ما يُقال عنها خيالية ومعجزة، كما باتت توزن بالكيلوبايت المتواضع بعد أن كان معجبًا قبل أقل من 30 عامًا وإلى ما هو أبعد وأكبر من ذلك بكثير؛ إذ قُدر حجم المعلومات المتراكمة في تاريخ البشرية كله حتى عام 2003 بما يعادل 12 ألف إكسابايت. ولتبسيط الفكرة فإن الإكسابايت الواحد يعادل مشاهدة مقطع فيديو عالي الجودة لمدة خمسين ألف سنة، ولكن ومع التضخم المخيف للمعلومات الشبيه بالتكاثر البكتيري، ازداد حجمها إلى أن أصبحت وحدة الألف إكسابايت لم تعد تؤدي غرض حساب الوزن، وها نحن اليوم نفتح نافذة حضارية جديدة على عصر الزيتابات، فمن استطاع امتلاك هذه المعلومات والسيطرة عليها والتحكم بها فهو بلاشك سيكون المسيطر على مجريات الأحداث فالمعرفة قوة.

بعد اللفتة التمهيدية السطحية سالفة الذكر، نلتفت ثانيةً وبشكل أكثر عمقًا إلى ما نحن عليه في حاضرنا من تزاحم وصراعٍ شديد للمعلومات وتضاربها بين الإعلام المُوجّه والمضاد، والعلم الصلب والزائف، ومواقع التواصل وغابات أفريقيا والأمازون. والحديث يعود على الإنسان المعاصر بشكل عام؛ بما في ذلك الأدغال والذي تشابكت أفكاره ومعتقداته وباتت تلعب بقناعاته ويقينه لإيقاعة في منطقة وَهْمٍ مُحايد بين التصديق والتكذيب الناجم عمّا يصله ويتابعه عبر بوابات المعلومات المشرعة عليه من كل صوب وحدب، ويصبح ضحية تنهشه التناقضات واللافهم والذي قد يصيب شعوره بالقلق الدائم والهم والخوف من المستقبل إلا أن بإمكانه غلق تلك البوابات بكل بساطة واستقطاع وقت للاستراحة والسكينة وسيكتشف أنه لم يخسر شيئًا وسيجد أن إيجابية النتيجة تتطلب فعل ذلك بين فترة وأخرى ولذلك ينعم ساكن الأدغال بعشق كبير لحياته الطبيعية في معزل يعصمه عن سُحب وغيوم المعلومات المنهمرة.

عندما قالت ملكة سبأ "إني أُلقى إلى كتابٌ كريم" فإنها كانت تقصد صدق المعلومة وحقيقة مصدرها مع غرابتها، فصدقها يكمن في فاتحتها بالبسلمة، وحقيقة الرسالة في مضمون خطابها الصريح والمباشر لا في شكلها وحجمها، أما غرابتها الخفية والتي قد لا يتنبه لها الكثير هي أنَّ الهدهد وسيلة غير معتادة في نقل الرسائل وأن من استطاع ترويضه لهذا الغرض هو إنسان خارق للعادة ولديه إمكانات فعلية للعلم وممكنات القوة.

ما أن تُشاع معلومة معروفة أو مجهولة المصدر ولا تأكيد لها سوى مقطعٍ صوتي أو مرئي من معرف متخفٍ وراء ذاكرة سحابية ويقوقل بالنشر أنى وكيف شاء أو مغمور ممن جعلوا القرآن عضين بعد اقتطاع "ولا تقربوا الصلاة" ليُطلق عنان الأحكام في سكرته الانفعالية في رسالةٍ على عَجلٍ تغص بالأخطاء والمغالطات مستشهدةً بالعلوم الزائفة وممهورة باسم العارف الفلاني ودالة حرف الدال للخبير العلاني حتى تطير بها الركبان في الفضاء السيبراني وتناور بها حول أسوار القسطنطينية؛ حيث قوات "الطوبخانة" قصفت بمدافعها العثمانية وتحلق بها فوق مضيق القرن الذهبي وصولًا إلى أنقاض بيت اللورد كرومر في مدينة الفيوم بمصر، ولا تزال طاقة الرسالة تكفي لحومة على فلسطين في محاولة بحث عبثية عن هيكل سليمان فلا ولن تجده، ولا بأس من الالتفاف حول قبة الصخرة اللامعة والاتجاه جنوبا واستشعار قوة الهدهد الغابرة في نقله للرسائل إلى مملكة سبأ بيد أن رسالتنا لم تحط رحالها لما رأته من أطلال وضيق حال كأن ملوكًا دخلوا تلك القرية فأفسدوها باستثناء أن الشمس لم تعد تعبد، لتعود بعد ثوانٍ بسرعة الضوء عبر عوالم التيرا والإيكسا محملة بإضافات وتعديلاتٍ لم تكن موجودة قبل رحلتها الأسطورية.

هناك تشابهات وفوارق عدة في المعلومة الزائفة أو المحرفة التي أشيعت سواء كانت بقصدٍ لخدمة هدفٍ محدد كما فعل أباطرة الرومان وملوك المغول وقيادات النازية واليسار الأمريكي ومغردو الكيان المحتل، أو بدون قصد ولا تخدم شيئًا سوى شعور النشوة لدى معتنقي مذهب "من قلب الحدث" وهم لم يصلوا حتى طحال الحدث، ولدى مريدي "مصدر موثوق" وهم بلا مصادر ولا وثائق ومع الفوارق في الأجندة والأهداف وسيكون لنا مع طائفة "منقول" وقفة أخرى، إلا أن مروجي المعلومات الزائفة والشائعات يتشابهون في إحداث ضرر في الحس السليم وزعزعة الوعي العام المتفق عليه لدى شريحة عريضة النطاق في المجتمع والذي يبادر بتصديق السلبيات والتسريبات قبل الإيجابيات من باب الحرص والخوف والاحتياط، والقليل منهم الذي يحتكم إلى التفكير العقلي والمنطقي ثم التحلي بالصبر والتروي حتى إذا تكشفت الحقيقة والتي سترى النور مهما طال غيابها وتسويفها حين صدورها من أصحاب الشأن قابلها مجددًا المعتنقون والمريدون بالتهكم والسخرية والاستنكار.