سعيدة بنت أحمد البرعمية
المرأة الأحقافية في الرواية، الكادحة، الثكلى، المنكوبة والمناضلة، هي كالأرض صلبة وجزيلة العطاء. "سمراء كعود الأبنوس، واثقة من نفسها كأي قائد شجاع، نظرتها الحادة في طرفها حول كفيلة بأن تخمد الأشياء من حولها" ص 101، هكذا وصفت الرواية فاطمة متقدة إحدى المقاتلات الأحقافيات.
سردت الرواية أسباب التمرّد الأحقافي كالجوع والضرائب والسياج المفروض من قبل المحتل على المدينة والرقابة على المنافذ، وتمثلت أسباب الهزيمة في اختلاف الاتجاهات والأيدلوجيات والتقسمات الجغرافية والانشقاق في صفوف المقاتلين، وتحول الأهداف العامة إلى شخصية وعدم تكافؤ الطرفين في العدّة والتنظيم.
المقاتل الأحقافي عنيد يجيد استخدام السلاح، فرؤية (الكند) ورائحتها تذكره بالأحقاف ص 37، في المقابل هو مرهف الحس "حينما يهب النسيم يترك الأحقافي سلاحه، يؤجل القتال إلى وقت لاحق" ص 81، يتضح تماهي الأحقافي مع الطبيعة بمكوناتها المختلفة، وربما هذا ما جعله يميل للموسيقا في الغربة بعد استهجانها بادي الأمر.
يبدو أنّ ما تفعله طيور الأحقاف، خاصة طائر النسّاج الذي يتأمله نشوان وهو ينسج عشه يمثل الحق الطبيعي الذي يقاتل من أجله الأحقافي، والذي لم يحققه نشوان في حياته، صورة من الطبيعة تربط بين هدف الأحقافي والجانب النفسي لنشوان.
توغل عنصر المكان في الرواية واتحد لحمة مع الأحقافيين، فربطت لغة الرواية بين طبيعة الأرض الوعرة وغطائها النباتي الشائك وعناد وصلابة أهلها؛ فكأنه يتقاسم صفات وراثية سائدة مع الأبطال؛ فبرز بروز يميزه عن غيره من عناصر الرواية؛ فقد دخل القارئ مبارك الإبل وسمع نحيبها مع الصدى واشتم رائحتها المختلطة بدخان النار ونفحات الهواء والضّباب، وسط مساكن بدائية من البيئة نفسها، ورأى عودة الرعاة والصبية يلعبون بالعصي حول مواقد النار، ودخل السجن في باطن الجبل وشعر بمعاناة المساجين واستطاع ذهنيا تكوين هيئاتهم ، وبرزت العديد من الإسقاطات المكانية كالساحل المتحد، الشاردة، الحادّة، شر تشتت، الراسية أو ستالينغراد الأحقاف، الجبل الأشم… إلخ، تنقّل القارئ بينها وعاش تفاصيل التفاصيل فيها، ربما كهف المعركة الأخيرة أكثر الأمكنة التي استطاع الكاتب سحب القارئ إليها، أو كهف عملية القصف الذي استقر في ذهن نشوان كشاهد أبكم على الجريمة.
"الأرض لا تعترف بالحياد إذا تعلق الأمر بأبنائها؛ فالأشجار والأحراش والطقس والضباب والمطر والتربة الحمراء والغدران وحتى الأفاعي تصطف مع المحارب الأحقافي ورفاقه" ص 79-80، برزت اللحّمة الكائنة بين الأحقافي والمكان؛ فجيش الطبيعة يصطف إلى جانبه ويحارب معه لحمة واحدة في تجسيد المشهد الثوري؛ حتى أن البحر في بعض أوقات السنة يزأر.
تتكرر الصورة ذاتها بشكل أكثر دقة، "كان الخلاء يقاتل معنا؛ لذلك حينما نسمع هدير الطائرة نختبئ في الكهوف، والحقيقة أننا لم نكن وحدنا من يلوذ بالكهف للاحتماء، هناك الذئاب والضباع، يجمعنا الخوف بالحيوانات المتوحشة في الكهف" ص 93-94
يصل القارئ لحالتين مرّ بهما الأحقافي، الأولى أن الحرب أخطر عليه من الوحوش؛ فهم بمثابة كتيبة مقاتلة احتمت في الكهف من القصف قبله لا يشكلون خطرا عليه، والثانية أنّ مكونات الطبيعة تشاطره العملية القتالية وهم على شراكة واضحة معه بالأرض.
شعر الإنجليز بالقوة التي تمنحها الأرض للأحقافيين؛ فبالرغم من السياج المفروض على المدينة إلاّ أنهم لم يركعوا؛ بينما المدينة بحاجة للحطب وربما تنقلب الموازين فتتبادل الأدوار؛ الأمر الذي جعلهم يسمحون للأحقافيين بشراء قدر حاجتهم من المؤن مقابل الحطب؛ فاستطاع جيش مكونات المكان تسجيل نقطة لصالحه؛ فمقوماته المتحدة لا تحتاج سوى قوة بشرية موحدة الهدف.
"الجبال أحضان الطبيعة التي لا تتخلى عن ساكنيها، في الجبال توجد الحرية والشموخ والشعور بالقداسة، أما الأراضي المنخفضة فتفرض على ساكنيها التسليم بالأمر الواقع" ص 43.
تشيد العبارة بسمات البيئة الأحقافية وتأثيرها على ساكنيها، فهم يستمدون خصالهم وقوتهم منها،؛ فالطفل المولود في الجبل يستمد صلابته وقوته ورفعته وأنفته منه، الأمر الذي يميز مولود الجبل عن أقرانه ممّن يولدون في المدن والأماكن المنبسطة.
ولمّا وقع التفكك في صفوف المقاتلين وجد المكان نفسه أمام أصعب الخيارات "تجد الأرض صعوبة في الانحياز إلى طرف من الأطراف المتقاتلة"ص 59، الأحداث في المعركة الأخيرة استطاعت توصيل هذه الفكرة من خلال وجود شقيق يحارب في الطرف الآخر يخاطب شقيقه ورفاقه بالاستسلام؛ فيصعب الحياد المكاني.
المكان الذي فلتت من الأحقافي دمعتين فور ابتعاده عنه، أخذ حيزا وافرا من سير الرواية وبرز بتأثيره الواضح على شخوصها، وأوصل القارئ إلى معالم جغرافيته، وظلّ عالقا في ذاكرة الحمرمي الذي زار المكان بعد 40 سنة وفوجئ باختلافه الذي طال ساكنيه بهيئاتهم وأفكارهم وتوجهاتهم؛ الأمر الذي وضعه في حيرة؛ فكيف لأذرع المدينة الامتداد إليهم وتمدنهم وكيف سلّموا بذلك، ممّا يؤكد للقارئ نجاح خطة المستعمر بمراحلها المختلفة التي سردتها الرواية من تمدين للجبل والفكر والجسد؛ فازدادت كلمة مستعمر ثاء طورها إلى مستثمر.
الحبكة نقاشية متماسكة، قامت وفق أحداث مترابطة في نسق واحد إلى نهاية الرواية، وهي مركبة بطريقة مقنعة.
يمكن تصنيف العمل على أنه رواية وطنية سياسية، بتقنيات مميزة ترسم خطا واضحا للقيم والمثل والبطولة، بلغة ذكية، كما حملت الرواية رسالتين قيمتين بثتهما بين السطور عن أهمية الكتابة والإنسانية في معاملة الأسير.
رواية كهذه تتسع للمزيد من القراءات خاصة في عنصر المكان، فالمكان بمكوناته الجيولوجية والبيولوجية جسّد مع الإنسان لحمة لا تقبل الانشطار، وظّفه الكاتب بطريقة فريدة تخدم الرواية، أمّا الزمان فبرز من خلال وشاية ابن الآنفي بنشوان للعميد توجسّا من نقاشاته السياسية المصاحبة لتبعات الربيع العربي.
مآخذي كقارئة على الرواية؛ لاحظت الرواية أعطت الجزء الأمني مساحة كبيرة؛ تخللتها تقارير لها علاقة بالموضوع لكنها مجهدة للقارئ؛ كتقرير الشجرة، حيث أخرج القارئ من جو النص ووضعه في آخر بيلوجي وميثلوجي يُعطي عنها حقائق علمية وعلاقتها بالأساطير، كذلك الطول والترادف لبعض العبارات، والوصف المتعلق بالفتاة السويسرية الدقيق لتفاصيل جسدها لا يضيف فكرة ولا يمثل اهتمام لقارئ هذا النوع من الروايات؛ فغير مستساغ رفع القارئ درجات من السّمو ثم طرحه أرضا في وصف غرائزي.
نقطة أخرى، اتضح للقارئ الانشقاق في صفوف المقاتلين والسياسيين والإعدامات العشوائية الطائلة، ولكن لا طارئ لمصير الخونة من رغد العيش أو ضيمه، والحالة النفسية والاجتماعية لهم بعد الحرب، بالتأكيد الرواية ينقصها هذا الجانب.