المؤرخ ومعايير الكتابة

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

"إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، أو معمل كبير لتجارب البشرية، يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها" هنري كيسنجر.

 

مما لا مندوحة فيه أن كتابة التاريخ أمر حساس جدًا؛ حيث ينقل وينشر أحداثًا مرت على أمم وأقطار مختلفة، ويقدم حوادث الزمان كما يفترض بأمانة منزهة عن أي دافع أو مصلحة، حتى تكون الأحداث المؤرخة شاهدةً على حقب وفترات، والأكيد أن أفضل عمل يقوم به كاتب التاريخ أنه عندما يعجز عن نقل الحقيقة، ألا يكتب!

ومن منطلق الأمانة والنزاهة أن تصمت خيرٌ من أن تزور التاريخ، أوتصفق لباطل؛ إذ للتاريخ معايير وقواعد وأسس يفترض ألا يتم تعديها أيًّا كانت الأعذار والأسباب، ولا يُمكن أن نساوي بين الروايات؛ بل إن تمييز الرواية الشفوية فيه اضطلاع بأمور كثيرة ذهنية وعقلانية وأخلاقية ولا ينقصها خواص الجرح والتعديل؛ إذ إنه ليس كل من يدعي امتلاك الحقيقة ممتلكًا لها فعلًا؛ بل قد يكون مُدلِّسًا أو متواطئًا، وإن أحسنا الظن لا يميز ويعاني من النسيان!

في حياتك اليومية تَفَكَّر قليلًا، في محيط أسرتك، في عملك، بين الأصدقاء، تذكر كم مرة تم لوي الحقيقة التي أنت كنت شاهدًا عليها، ثم سكتت عنها، ومضت حقيقة يتداولها الناس هي في الواقع كذب محض.

في كتابة التاريخ بفتراته وعصوره المتعاقبة ثمة أدوات لاغنى للباحث عنها، وهي معرفته بعلوم مساندة لعلم التاريخ؛ إذ ليس غريبًا أن تجد باحث التاريخ فاهمًا للفلسفة، أو واعيًا في علم الاجتماع، وقطعا لا يكون جاهلًا في علم السياسة، وكذلك علوم أخرى لا يمكن للباحث أن يتجاهلها كنظريات النقد العربي القديم والحديث، وعلم الجرح والتعديل كما أسلفت بأول المقال، كذلك من المهم قبل أي شيء أن يكون الباحث كاتب التاريخ من المشهود لهم بالعقل الراجح والأمانة، وهاتان هما الصفتان المتكأ عليهما قبل الدخول في البحث العلمي، وبأي علم كان.

سأحدثك بصراحة واختصار عن باحث التاريخ أو المطلوب كيفما يكون ذلك الباحث، ولأن كتابة التاريخ مسؤولية جسيمة قد يترتب عليها تزييف لحقائق وغبن وظلم لأمور يتناولها الباحث، لذلك مبدأ المصداقية هو القاعدة التي ينطلق منها، وفرضًا لو تعرض الباحث لضغوط معينة من أجل تغيير في تركيبة الحدث التاريخي المراد بحثه وتأريخه، فهنا من الحكمة ونزاهة الباحث ألا يكتب وألا يتطرق البتة لهذا الحدث، فإنَّ تغيب وأنت محافظ على مستواك الأخلاقي، خيرًا من حضور مُهين، يرمي بك في سلة الشبهات.