تقدُّم الأمم

سعود بن حمد الطائي

تتمثل قوة الدول في جانبين رئيسيين: القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، وهاتان القوتان يجب أن تسيرا جنبًا إلى جنب؛ فالقوة العسكرية ضرورية لحماية البلاد ونشر الأمن، والقوة الاقتصادية ضرورية لتوفير فرص العمل ومستلزمات الحياة من مسكن ومأكل ومشرب وغير ذلك من التسهيلات.

وكلما سارت هاتان القوتان جنبًا إلى جنب، تقدمت الدول وتمتع مواطنوها بمستوى عالٍ من الحياة، وهذا ما نراه في كثير من الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ يبلغ الناتج الإجمالي لها أكثر من تريليوني دولار، وهي في نفس الوقت قوة عسكرية كبرى،. وتسري هذه القاعدة على كثير من الدول الأخرى مثل: فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول مثل اليابان وكوريا، في حين أن هذه القاعدة لا تتحقق في الكثير من دول العالم الثالث، وهذا سبب من أسباب تخلفها وتراجعها إلى المراتب الدنيا؛ فميزانية شرائها للأسلحة والتركيز على بناء القوة العسكرية يأتي على حساب القوة الاقتصادية، وبالتالي يتراجع النشاط الاقتصادي ويقل الإنتاج الصناعي، وتنعدم فرص العمل، وتزيد معدلات الفقر، وهذه القاعدة لم تعد مجهولة وقد تحولت مع مرور الزمن إلى معلومات بديهية معروفة عند الكثير من المهتمين بالشأن الاقتصادي. لكن الجانب الأصعب ليس في معرفتها، وإنما في العمل بها، وتهيئة البيئة المناسبة لتنفيذها جنبًا إلى جنب مع ميزانيات الأمن والدفاع.

من المؤسف أن نرى دولاً عربية تتذيل قائمة الدول المتقدمة؛ فهي لا تنتج شيئًا يذكر، مقارنة بالدول الصناعية الكبرى، وبدلًا من ذلك فهي مشغولة بصراعاتها الداخلية، رغم الثروات الكبيرة التي تزخر بها أراضيها وشواطئها، لكنها في شغل شاغل بزيادة مراكز حدودها الأمنية وتشديد قبضتها على الفكر والحريات، ولذلك فقد تحولت إلى دول استهلاكية. كما تقدمت دول كثيرة في آسيا مثل كوريا واليابان الرائدة في حمل شعلة التقدم، والصين ومنطقة تايوان، وكلها تمضي بخطى واثقة نحو مزاحمة الغرب وأخذ مكانة رفيعة بين الأمم.

وفي المقابل نرى شعوبا عربية وإفريقية متأخرة عن اللحاق بركب السائرين إلى المجد والتقدم الحضاري، على الرغم من أن اللحاق بركب هذه الأمم لا يبدو صعبًا ولا مستحيلًا؛ فتايوان على سبيل المثال إقليم صغير وبلا موارد تُذكر ومع ذلك لا يُمكن لغواصة نووية أن تتحرك أو طائرة حربية أن تقلع، إلّا بعد شراء أنظمتها وبرمجياتها من شركة تايوان للبرمجيات. وكثيرة هي الأمثلة على اختراقات الدول الآسيوية لفضاءات العلم والمعرفة؛ فمبيعات شركة سامسونج الكورية تتجاوز في أحيان كثيرة مبيعات شركة أبل الأمريكية العملاقة، ومن قبل تربعت شركة تويوتا اليابانية للسيارات على عرش قائمة أكثر السيارات مبيعًا في العالم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المعرفة والعلم ليسا حكرًا على شعوب معينة، وإنما هي متاحة لجميع من تتوافر في أعماقهم الإرادة والرغبة والسعي إلى عوالم جديدة.

ومن هنا.. فإنَّ أخذ زمام المبادرة والتقدم بقوة لإنشاء قاعدة صناعية تعتمد على التكنولوجيا الحديثة لأشباه المُوَصِّلات وصناعة الحاسوب والبرمجيات وصناعة السيارات وقطع غيارها والتوسع في المشاريع المصاحبة للنفط والغاز، يضمن تكامل البنية الصناعية. ومن المهم جدًا أن توّفر الدولة الدعم المالي والتركيز على تدريب وتعليم  القائمين على إدارة هذه الصناعات، لأن ذلك سيشكل الرافعة التي تنقل البلاد من مستهلكٍ إلى منتجٍ، وتُسهم في توفير فرص عمل متنوعة في هذه المصانع، ولا شك أن الأسواق الخليجية والعربية ستكون جاهزة لاستقبال منتجات هذه المصانع .

والاعتماد على النفط- وإن كان سلعة إستراتيجية ومهمة- إلّا أنه لا يكفي لنقل البلاد من اقتصاد قائم على الاستهلاك إلى اقتصاد قائم على الإنتاج والمبادرة نحو الصناعات التحويلية، وقد مرّت- كما أسلفت في المقال السابق- ممكلة هولندا (نيذرلاند) بهذه التجربة، عندما تم اكتشاف النفط في بعض مناطقها، بينما تقاعس أبناؤها عن العمل وركنوا إلى التراخي؛ فتأخرت هولندا عن اللحاق بمثيلاتها من الدول الصناعية، لكنها استفاقت بعد ذلك من حلمها الوردي، ودخلت من الباب الواسع إلى عالم الإنتاج الصناعي.

إنَّنا يجب أن نستفيق ونجدد العزم على الذهاب بعيدًا في كل مجالات التقدم والمعرفة، كما ذهبنا من قبل بعيدًا في مراحل كثيرة من تاريخنا المجيد.