لعبة الكراسي

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

كُرْسيٌّ كلمة عربية مُشتقة من الفعل الثلاثي " كَرَسَ" مكونة من ثلاثة مقاطع صوتية، طويل، قصير، طويل، وتعني مقعد من خشب أو نحوه لجالس واحد، ربما الإفراد هي الميزة التي تميزه، يذكر التاريخ أنّ الكرسيّ الأول يرجع ابتكاره إلى العصر الحجري واخترعه الإغريق في عام 350 ق.م، وهم من أضاف إليه العجلات المتحركة لحمل الأطفال.

لا شك إلى أن كلمة كرسي تقترن بالإفراد والتمييز من حيث الدلالة، كما أنّها تحضُّ على أمر مُعين من خلال دلالة "التكريس"؛ فهناك من يسعى لتكريس حياته للكثير من الأعمال، كالعلم أو القيادة أو السفالة، فلكلّ هذه المقامات كراسٍ تليق بها؛ فكراسي الدراسة والعمل والقيادة لكلّ منها مواصفات خاصة تختلف تماماً عن كراسي لويس الحمراء.

تبحثُ الأم لرضيعها على كرسي صغير تضعه عليه كلما دعت الضرورة، لكنّه عندما يكبر قليلا يتمرّد أحيانًا على كرسيّ الأمومة، فتجده يبكي عند وضعه عليه معلناً الرفض، فتخضع الأم لرغبته ويتم هجر كرسيّ تلك المرحلة؛ فتجلسه في حِجرها أو تضعه على الأرض يحبو ويقف على الجدران حتى يكبر ويلعب مع أقرانه في الحديقة على كرسيّ الأرجوحة، وعند وصوله عمر الدراسة يجد نفسه فجأة على كرسي لم يختر شكله ولا يملك حرية التمرّد عليه، يقف عائقا بينه وبين كرسيّ الأرجوحة الذي يستمتع بالجلوس عليه، ليدله هذا الكرسيّ على أنّ كراسي غرفة الصف جميعها تتشابه باستثناء كرسيّ المعلم، كما يلاحظ أنّ كرسيّ المدير يختلف عن كرسي المعلم.

هناك يدرك أهمية اختلاف الكراسي وتمييزها المقرون بسيادتها وسلطتها، كما يتعرّف على كراسٍ أخرى لم يكن يعلمها ومنها كرسيّ الهمزة، وكرسي الآية العظمى في القرآن وسيادتها في الفضل على بقية آيات القرآن.

تكسبه هذه التجربة الاقتران بين الكرسي والسيادة، وعندما يلعب لعبة الكراسي في الصف مع زملائه، يفهم الفرق بين من يجلس على الكرسي ومن فاتته فرصة الجلوس عليه، حينها يدرك أنّ أمامه مرحلة يجب أن تكون مكرّسة للوصول للكرسيّ؛ لذا يجب أن يكتمل تشييد البناء خلال مرحلة الدراسة، وفي العام الأخير يسعى جاهدا للحصول على كرسيّ في إحدى الجامعات؛ ممّا يشير إلى أنه أصبح يفهم لعبة الكراسي؛ فبعد أن كان الكرسيّ يتمرّد عليه في طفولته، بات يشغله ويسعى للوصول إليه.

وفور حصوله على مقعد الدراسة في إحدى الجامعات، يسعى للتفوق على أقرانه ويصل نهاية كل فصل إلى غرس اسمه في لوحة الشرف المعلقة في واجهة مبنى كليته، ثم لا يكتفي بهذا ويجتهد في عمل أفضل بحث والابتكار في مشروع التخرج لجعله الأكثر ابتكارا وأهمية.

وبعد أن تتكلل جهوده بتفرده على كرسيّ النجاح، الذي يدفعه بدوره لممارسة السلطة والتنقل بين العديد من الكراسي المتغيرة وممارسة لذّة الجلوس عليها، يشعر كعادته بلذة التمرّد، فيدخل على أحد مواقع التسوق الإلكتروني ويبحث عن كرسي بمواصفات متغيرة وثابتة في الوقت ذاته؛ فيشتري كرسيا هزازا بقاعدة ثابتة ليضعه في غرفة مكتبه الخاص؛ فيجلس عليه في أوقات العزلة والتجلّي، يقارن بين حاله عليه وحاله على كرسيّ الأرجوحة الذي كان يجلس عليه وهو صغير، فيلاحظ أنّ الاختلاف بينما يكاد لا يُذكر؛ إنما الاختلاف يكمن فيه هو؛ فقد كان على كرسيّ الأرجوحة خفيف الوزن سالي البال محبا للأشياء ويشعر بمذاقها، يتنفس هواء الحديقة المتجدد، وبات على كرسيه الهزاز مثقل الرأس يتعاطى القهوة والهموم ويتنفس هواء التكييف المقلّد، يتذكّر أنّ لكلّ منّا حسب الوعد والاتفاق مقاعد أخيرة قد تكون في الجنّة أو في النَّار، يفصل بيننا وبينها الوصول إلى كرسيّ الاسترخاء البرزخي، ثمّ ينتابه شعور بأن جميع الكراسي التي جلس عليها، لم تكن مريحة بقدر الراحة التي شعر بها وهو صغير في حِجر أمّه أو وهو على كرسيّ أرجوحة الحديقة، حينها قد يشعر أنّه لم يجرّب كرسيّ الاسترخاء طيلة حياته، فيفكر بخوض التجربة قبل أن يضيق عليه العمر ويسقط على كرسي الاسترخاء البرزخي؛ فيدير محرك البحث سريعاً للبحث عن كرسيّ الاسترخاء في مكان مفعم بالهدوء، وعندما يجده يُلغي الحجز مؤجلا الموضوع؛ بسبب تذكره موعدا مهما أو لارتباطه بالعمل أو بالعائلة؛ فيتمرّد على كرسي الاسترخاء ملبيًا نداء كرسيّ السلطة الثابت!