بين أروقة المعرض

مدرين المكتومية

عادة ما نلتقي أشخاصًا لأول مرة، لكننا في أنفسنا نُردد بدهشةٍ: متى وأين التقيتُ بهم من قبل؟ تلك الملامح الملائكية ليست غريبة على ذاكرتي البصرية، لابُد وأنني التقيت هذا الشخص لبرهة خارج الزمان والمكان!

وفي معرض مسقط الدولي للكتاب كنتُ أُواصِل السير بين أركان وأجنحة المعرض، لعلني أجدُ ما ضاع مني، وربما أضعته في طريق البحث عن شيء آخر دون أن أنتبه لذلك، وأثناء السير لا ألبثُ إلا أن أتوقف لأنني للحظة تعثرت بصديق قديم مرَّ على غيابه سنوات طويلة لم ألتقه، وربما شاءت الأقدار وأضاع كل منَّا الآخر على حين غفلة في زوبعة الحياة وإيقاعها المتسارع.

تمضي قدمًا ظنًّا منك أن المُصادفات لن تجمعك بأحدهم، دون أن تدرك للحظة أن كل خطوة هي مشروع لقاء جديد، وكل مسافة تقطعها هي مسافة لعمر آخر، وأن كل من رحل اليوم تعيده الذاكرة في لحظة واحدة وبغزارة لقاء مبعثر كان وليد الصدفة، وما أجملها من صدفة!

إنها الحياة بكل ما تحمله من مفارقات في كافة تفاصيلها، فهي تمنحك لتأخذ منك، وتأخذ منك لتمنحك ما لا تتوقعه، وما لا يمكنك تصوره، في مسرحها المليء بالجماهير المتفرجة، وفي توقيتها الذي لا تتوقف فيه عقارب ساعتها.

وخلال تجوالي بين أروقة معرض مسقط الدولي للكتاب، كنتُ أرى الحياة بطبيعتها، والبشر على اختلافهم إلا أنني كنت أتوقف عند مشاهد اللقاءات الحارة المليئة بالفقد، وعند خيارات الأطفال للكتب، وشغف البعض الآخر منهم بالبحث عن كتاب بعينه، كنت أرى الابتسامات وهي تتعالى وأصوات ضجيج الأسئلة عن عنوان بعينه، وناشر مُعين، وربما كاتب نال فرصة لقاء معجبيه من المحبين للكلمة والمعنى.

بين هذه الأكوام من الكتب، هناك روايات منسية لأشخاص لم يعودوا بيننا، وقصص لم يعد هناك من يسرد تفاصيلها، ولحظات انتهت بانتهاء زمنها، وغيرها من التفاصيل الأخرى التي ارتبط أصحابها بأبطال ما كتبوه، إنهم الكتاب الغائبون الحاضرون في كل محفل ثقافي، غابوا عنَّا ولكنهم ما زالوا حاضرين في المشهد الثقافي بقوة، إنني أتحدث عن كل أولئك الذين تركوا لنا مخزونًا ثقافيًا لا يُقدّر بثمن، أتذكرُ أحلام مستغانمي وألوانها التي قد تليق بي أو لا تليق، وتتردد على مسامعي أشعار نزار قباني وغزله الذي لا يتوقف بالمرأة، وتحوم حولي شخصيات ويليام شكسبير من هاملت إلى ماكبث ويوليوس قيصر، وشخوص نجيب محفوظ في رواياته الآسرة، أما فيكتور هوجو الساحر فيجذبني إلى متاهة المدينتين، وأغوص مع فيودور دوستويفسكي في رائعته "الإخوة كارامازوف"، وغيرهم كثيرين، كما أهيمُ في أعمال واسيني الأعرج التي يحتفي فيها دائمًا بالمرأة التي تمثل محور إبداعاته، فكم تستهويني "أصابع لوليتا" وكم أقف احترامًا أمام "سيدة المقام"...

إنَّنا هنا لنكتشف ما كانوا يخفونه خلف القصص والحكايا والعجائب، وما آلوا إليه في نهاية المطاف.

عند تجوالي بين دور النشر المتنوعة، أقفُ عند رائحة الكتب، أقف عند صوت الورق حين تقلبه الأيدي، وأمام أغلفة الكتب الممتلئة بوجوه أصحابها، أقف عندها لأرى كم أننا نعيش وسط ثورة ثقافية ومعرفية كبيرة، لكننا لسبب او لآخر لا نعترف بها، أقف بنفس المكان، وبنفس اللحظة، وبجانب دار النشر نفسها، ولكنني هذه المرة أقف وحدي، لم يكن بجانبي قهقهات الأصدقاء، ولا ملامح وجوه كنت أعرفها، ولا بقايا من كلمات لطالما ترددت على مسامعي.

اليوم أكتشف أننا لا نملك من الحياة سوى لحظات، لحظات تعيدنا للمكان نفسه، وذاكرة تعيد لنا لحظات السعادة، وبقايا من أمل يحدونا على أن تعود لنا الأيام كما كانت في سابق عهدها، إنني اليوم وأمام هذه الكتب أجدني أقلب صفحات بعضها لأبحث عن شيء لا أعرف ماهو...؟ أو عن أحدهم أضعته ذات مساء بين زوايا هذا المعرض ولم يعد بيننا اليوم..؟ وربما وبالتأكيد أنني هنا أبحث عن ذاتي التي تركتها منذ عام لأرى كم مر من الوقت...؟ وما آلت إليه، وكم أصبح عمري بحساب الأحداث لا السنوات..؟ أنا هنا لاكتشف ما أريد أنا وما الذي تريده مني الحياة.

كل ما يمكنني أن اختتم به هذا المقال الأقرب إلى خاطرة ذاتية، أنني أود منكم أن تكتشفوا أنفسكم بين ماهية الكتب، وأن تبحثوا عن شخصيات تشبهكم، وأن تتصورا حيواتكم كما صورها الكثير من الكتاب ذات يوم، أريد منكم أن تبحثوا في السطور عن قصص مشابهة لكم، لتستطيعوا أن تحبوا هذا النوع من الكتب، وأن تنتظروا كل عام هذا المعرض بشغف العاشق الذي غادره  من يحب على أمل عودته من جديد.