آخر كلام

التنمية الوقائية وإدارة الكوارث

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

تتسبب الكوارث الطبيعية والبشرية، التي صنعها الإنسان، خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، فهي تسبب أضرارًا في البنية الأساسية، وتدمر المباني والمنشآت، وتضعف الاقتصاد، وترفع من مستويات الفقر، وتؤدي إلى فقدان الكثيرين لموارد رزقهم.

وتفيد تقارير دولية بأن الكوارث الناتجة عن المناخ والطقس والمياه، زادات بمقدار ما يقارب خمسة أضعاف، في الخمسين السنة الماضية، بمعدل 11 ألف كارثة، وما يقارب مليوني حالة وفاة، وخسائر مادية تقدر بما يقارب 4 تريليونات دولار أمريكي، والبعض يعزو ذلك إلى التغير المناخي، والنمو الاقتصادي، وسوء إدارة الموارد الطبيعية.

دراسة حديثة وجدت علاقة بين تخطيط المدن، وبين كمية الأمطار، فقد توصلت الدراسة إلى أن المدن ذات التخطيط الدائري، تحظى بكميات أعلى من الأمطار من المدن المربعة، والمثلثة خصوصا لو كانت مدنا ساحلية؛ حيث وجدت الدراسة، أن نسبة الرطوبة تكون أعلى في المدن ذات التخطيط الدائري.. لذلك فهي عرضة للفيضانات، وبالتالي ترى الدراسة أن يضع مخططو المدن، شكل المدينة في الاعتبار، تفاديا لكوارث قد تحدث في المستقبل، الناتجة عن التغير المناخي وجنون المناخ.

تعاملت بعض الدول، مع موضوع التغيرالمناخي، بخطط وقائية للمناطق القريبة من السواحل، والمنخفضة حتى المناطق القريبة، من أحزمة الزلازل والبراكين. تعد التجربة الهولندية من التجارب المميزة في التعامل مع الفيضانات، حيث إن ستة وعشرين بالمئة من أراضيها تقع تحت مستوى البحر، لذلك تم تصميم المدن ذات الكثافة السكانية الكبيرة، والمهمة اقتصاديا، بمواصفات تؤهلها لتكون صامدة أمام الفيضانات، التي قد تحدث كل عشرة آلاف سنة، أما المناطق الداخلية والمنخفضة سكانيا، فإنها مؤهلة للتعامل مع فيضان، قد يحدث كل 1250 عامًا.

وتعد اليابان من النماذج التي يُحتذى بها، في التكيف مع الكوارث الطبيعية، كالزلازل والبراكين، فهي معروفة بناطحات سحاب مقاومة للهزات الأرضية، بالرغم من وقوعها في منطقة نشطة للحزام الزلزالي. وبعد كارثة كانتو عام 1923، وضعت اليابان معايير صارمة، وقانونًا خاصًا يحدد معايير البناء، من حيث سماكة الجدران، والأعمدة، وقدرتها على مقاومة الهزات، ووجود مخمدات لامتصاص الطاقة، وغيرها من الأنظمة الوقائية.

وكشفت الكوارث الطبيعة، في المجتمعات التي عانت من خسائر بشرية ومادية كبيرة، عن إخفاقات في مسارات التنمية، والتخطيط العمراني، وتوزيع السكان، وتجاوزات في معايير البناء في المناطق الحمراء، التي تقع بالقرب من الأنشطة البركانية، والزلزالية والفيضانات، ويرى الباحثون أن التنمية غير المتوازنة، عمقت من المشكلة على مدار العقود، فالكثير من الدول التي اتجهت إلى خطط الاستثمار، ودفع عجلة الاقتصاد، قد أهملت الجوانب الوقائية في التخطيط الحضري، ومنحت موافقات للبناء الحر حتى في مجاري الأودية ومسارات المياه والشواطئ دون تحديد مواصفات خاصة وشروط البناء والإعمار.

ويرى باحثون أن التخطيط الأفضل في الأوضاع الحالية، بالتنمية الوقائية بأن تقوم الدول بتوزيع مشروعات التنمية، والإيواء والخدمات الرئيسة، بحيث تشمل كل البلاد، وبالأخص المناطق المرتفعة تحسبا لأي طارئ يحدث، فمنسوب مياه البحار في ارتفاع نتيجة ذوبان الجليد، وكما تعاني المناطق الساحلية من جراء الأنشطة البشرية، والمشروعات التي استنزفت البيئة الساحلية، وأدت إلى تآكل الشواطئ، فعلى سبيل المثال يتوقع أن تغطي مدينة بانكوك بمياه يتراوح عمقها بين خمسين إلى مئة بحلول عام 2025.

أما المشروعات الصناعية والمناجم، فقد ساهمت في انخفاض الأرض في بعض المناطق من العالم ناهيك عن سدود التغذية الجوفية المقامة على أحزمة الزلازل والبراكين، فإنها ليس فقط قد تسبب الفيضانات في حالة حدودث الزلازل، بل تشكل ضغطا على القشرة وتستفز الطاقة الكامنة بها.

المدن تحتاج إلى مستويات الأمان، وتحديد المواقع التي تحتاج إلى حماية وعناية أكثر من غيرها عند التخطيط التنموي، فالتنمية المتوزانة للمدن والقرى، تقلل من الآثار الناتجة عن الكوارث لا سيما في تقليل الخسائر البشرية. وعلى الرغم من أننا شهدنا تقدما كبيرا في تقنيات البناء وهندسة المدن، إلا أن العائق الوحيد الذي تواجهه البشرية جشع الإنسان، واستنزافه للموارد الطبيعية، والتعامل مع الكوارث كأنها حوادث عارضة تحتاج لحلول وقتية.

ومنذ بداية الألفية زاد عدد الأعاصير، والمنخفضات الجوية التي باتت تعصف بالمنطقة، مخلفة وراءها خسائر في الممتلكات، والبنية التحتية والبشر، وان كان الأنذار المبكر وخطط الطوارئ قد أنقذت الملايين، إلا أن الخسائر المادية لم تكن قليلة، فبعض المناطق تضررت ولم تعد صالحة للإعمار، وأخرى تحتاج إلى معالجات قد تستغرق أعوامًا.

اليوم أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى منظومة تشريعية حديثة، للتخطيط العمراني ومعايير صارمة لجودة البناء واستدامتها وإدارة المخاطر، وتحديث قوانين العقوبات بالمباني والإنشاءات، واضعين في الاعتبار التغير المناخي كواقع معاش ومستمر، بحيث تحث على تبني تقنيات بناء آمنة ومستدامة، تختلف وفقاً لموقع البناء ونوعه وجيولوجية المكان، إلى جانب وضع خطط لتوزيع سكاني متوازن في المدن والقرى، بما فيها بناء المدن الجديدة في مناطق آمنة بعيدة عن الأودية والسواحل، ومنع البناء في مسارات الأودية وتقنين تصاريح المحاجر والكسارات... وغيرها من الاستراتيجيات الوقائية التي ستساهم بلا شك في حماية مكتسبات الوطن وأبنائه.