د. عبدالله باحجاج
عقد المجلس البلدي الجديد لمُحافظة ظفار، حتى الآن، اجتماعين برئاسة صاحب السُّمو السيد مروان بن تركي بن محمود آل سعيد محافظ ظفار، ومن نتائجهما المعلنة يُمكن القول إن إرادة هذا الكيان؛ سواء المنتخبة أو الممثلة للسلطة المحلية الحكومية متوافقة في الموضوعات المطروحة للنقاش، وتتغلغل في جوهر القضايا التي كانت تشغل الرأي العام المحلي، مثل استرجاع الأراضي الاستثمارية التي مضى عليها أكثر من 10 سنوات، والإسراع في وضع مخططات الشارع البحري بالدهاريز، وتجهيز الشواطئ بالولايات باستراحات عصرية.
لكن ما سبق مجرد توصيات؛ الأمر الذي يستوجب من المجلس البلدي البحث عن آلية ضغط مشروعة لحمل الجهات الحكومية على الاستجابة لتوصياته غير المُلزِمة، كتفعيل آلية قنوات تواصل المحافظ المركزية، وتشكيل لجنة تمثل الجانب الديمقراطي في المجلس للتواصل من القيادات المركزية في مسقط لتحريك الملفات المتفق عليها.
ويُحسب للمجلس ورئيسه صاحب السمو السيد المحافظ عقد لقاء مع كل الجهات الخدمية بالمحافظة لتقديم خططها لعام 2023، في بادرةٍ توصف بأنها الأولى من نوعها، وهذا التوجه له أهميته المحلية في إطار نهج اللامركزية الذي لم تجنِ المجتمعات المحلية فوائده حتى الآن، ولو في حدوده الدنيا؛ فتقديم الجهات الحكومية المحلية خططها السنوية في المحافظة، سيجعل المجلس البلدي على اطلاع بحجم وماهيات خطط كل جهة حكومية في ظفار، مثل الخطط الصحية والتراثية والسياحية والتعليمية والإعلامية والزراعية والسمكية.. إلخ، مما يجعله بمثابة سلطة رقابية على التنفيذ ونتائجه.
هذه جهود ومسارات إيجابية للمجلس البلدي الجديد في ظفار، وتستحق الإشادة بها، ودعمها، لكن ليس الجانب المادي للمجتمعات المحلية هو كل شيء، فهناك أيضاً الجانب المعنوي/ الروحي، وهو لا يقل شأنًا عن الجانب المادي؛ بل له الأولوية في حالتنا بالمحافظة؛ لأنه يُشكِّل الحصانة الضرورية للفرد والجماعة والمجتمع والدولة، فما قيمة الأبنية والجسور والاستراحات لوحدها مثلًا، دون ضمانة القيم والأخلاق؟ من هنا نلفت نظر أصحاب هذه الجهود المُخلصة إلى أهمية التكامل بين الضرورات المادية والمعنوية/ الروحية داخل المجتمع، وأن لا يأتي أحدهما على حساب الآخر، وإنما الانطلاق من مفهوم التوازن الاجتماعي، وهو مفهوم حديث نسبيًا في الدراسات الاجتماعية، ونرى أن الدول الحضارية التي تشعر بثقل ديموغرافيتها داخل جغرافيتها السياسية، ويكون الوزن الثيولوجي (الديني) هو الغالب، سيكون معيار نجاح مؤسساتها الحكومية والمنتخبة معًا يكمن في التوازن الاجتماعي.
ولو تأمّلنا في البُعد الاستراتيجي للامركزية والمجالس البلدية، سنجده في إعادة إنتاج مجتمع متوازن روحي ومادي، بينما العالم من حولنا يموج بحقبة سياسية معقدة جدًا تتسابق فيها الدول والجماعات إلى فرض أجندتها الفكرية والثقافية والاقتصادية، واختراق المجتمعات للتغلغل في بنياتها التحتية، ولكي تكون من أدوات قوتها الناعمة الضاغطة على الأنظمة. فما قيمة الإنجاز المادي في مجتمع مُستهدف من تجار المخدرات وبائعات الهوى ومروجي الإلحاد والنسوية والمثلية.. إلخ؟ وما قيمة البناء المادي المجرد أو الأحادي في ظل تلكم التحديات؟ ولنا في تصريحات الدكتور جلال المخيني ما يدعم طرحنا، ويجعل التوازن الاجتماعي مسؤولية أخلاقية ووطنية لأعضاء المجالس البلدية. فقد تحدث الدكتور المخيني عن "مُدمنين للمخدرات في عمر صغير" ما قبل الصف السادس والسابع، وكذلك ما قالته إحدى الممرضات عن استقبال أحد مستشفيات البلاد لسبع حالات مصابة بمرض الإيدز، فماذا نريد من معطيات جادة أكثر من ذلك؟
ومما تقدم، تظهر الحاجة القصوى والملحة والعاجلة للاهتمام بالشق المعنوي/ الروحي في إطار أولويات المجالس البلدية في البلاد، وظفار نموذجًا، فلم يعد سرًا ما تعانيه ظفار من تداوُل المخدرات وغزو محال بيع التبغ للأحياء السكنية وقرب المساجد والمدارس، وتنامي حركات دخيلة علينا كالنسوية، ومسارات الالتفاف على الأغراض التجارية، وتحويل بعضها ليلًا إلى غير أغراضها.. إلخ. وتلكُم نماذج فقط للاستدلال بها، لتبيان الأهمية الوطنية من منظورها المحلي، فلا يُعقل أن يعقد المجلس البلدي اجتماعه الثالث المقبل، دون أن يركز على الجانب المعنوي/ الروحي في انشغالاته بالجانب المادي، فالجانب المعنوي/ الروحي لا بُد أن يحظى بنفس الاهتمام من حيث السياقات الزمنية والماهيّات المكانية.
ولا ينبغي- في ظل نظام اللامركزية- أن تتأخر عملية التوازن الاجتماعي للبنائين المادي والمعنوي/ الروحي، فكيف إذا ما علمنا أن هناك مجموعة اختلالات كبرى في البناء المعنوي/ الروحي تنتجها قوانين ولوائح بلدية، مثل: الموافقة على افتتاح محال لبيع التبغ في مواقع في متناول الأطفال والشباب، وكيف نستبعد سقوط الأطفال والشباب في إغراءات هذه المحال، وقد تناولنا هذه القضية في عدة مقالات، لكن لا حياة لمن تنادي. والآن نراهن على المجلس البلدي الجديد بفضل وجود كوادر واعية ورئيس يمكن عن طريقه تحقيق التوازن الاجتماعي بين حاجياته المادية، وضروراته المعنوية/ الروحية.
لن نعذر المجلس البلدي في ظفار إذا لم يُسارع في فتح هذا الملف من منظور التوازن، فهذا في صلب مسؤولياته الوطنية، وليس لدينا أي شك في القيام بذلك، لكننا نستنهض عامل الإدراك "العقل" في الوعي المُحفِّز بها من جهة، وفي جعلها ضمن أولويات انشغالاته من جهة ثانية. وهذا كله بهدف بعث رسالة اجتماعية مفادها أن المجلس البلدي بمثابة أداة ناجزة لإرادة المجتمع المحلي، وأن هذه الإرادة واعية بالتوازن وفي إطار مسؤوليتها الوطنية، ويمكن الاعتماد عليها لديمومة الرهانات على صناديق الانتخابات التي ينبغي أن يخرج منها الوعي النخبوي لمراحل تأسيس النهضة العمانية المتجددة.
فهل يتأسس المستقبل على مبدأ التوازن الاجتماعي أم الأحادية المادية؟ الإجابة على التساؤل تحتاج إلى مقالات مُقبلة.