فاطمة اليمانية
"جميعهم بخير.. إلّا أنا".. "الناجي الوحيد من العائلة"
***
أرسل لها شقيقها صور مائدة العشاء الشهيّة المتنوعة التي أعدّتها والدتها بكلّ حب، وكانت تحتوي على العديد من الأطباق، ومن ضمنها طبقها المفضل... ولأنّه يعلم جيّدًا حبّ شقيقته لهذا الطبق؛ كان سخيًّا في التقاط أكثر من صورة له، قاصدًا إثارة غيرتها، ولم يكتفِ بذلك، بل التقط صورًا عشوائية لجدّته بابتسامتها العذبة، ولوالده وهو يناول جدّه الخبز، ولأمّه وهي تطعم شقيقته الصغيرة، التي كانت تحتضن دميتها وتطلب من أمّها إطعام الدمية معها...
فردّت عليه بصورة لوجه باكٍ، ورسالة صوتية مُعاتبة مليئة بالشَجَن لبعدها عنهم، ومتذمّرة من كثرة متطلبات الدراسة الجامعية، ثم انزوت باكية تفرغ شحنة عاطفية من الشوق الممزوج بخوفٍ لا مُبرر له انتابَ قلبَها في ثوانٍ قليلة!
ولم تكفَّ عن البكاء إلّا بعد اتّصال والدها الذي وعدها بزيارتها هو ووالدتها وأشقّاؤها في عطلة نهاية الأسبوع، وسيقضون معها وقتًا جميلًا، ثم يعيدونها للسكن الجامعي؛ حتّى تنتهي فترة الاختبارات.
نامت تلك الليلة قريرة العين، متلهّفة لعطلة نهاية الأسبوع؛ بعد أنْ اختارت ملابس الخروج التي سترتديها عند وصول عائلتها، وبعد أن ركنت علبة الحلويات في الرفّ العُلْوي في خزانتها؛ حتّى لا تلتهمها أثناء المذاكرة.
لكنّها استيقظت على أصواتِ بكاء وعويل يملأ السكن الجامعي...
فتحت هاتفها؛ لتصعق بخبر حدوث زلزال عنيف في المدينة التي يقيم أهلها فيها، وبأنّ معظم المباني تهدّمت، وتكوّمت بمن فيها، وبأنّ عدد الضحايا مَهول، ولا أحد يستطيع التكّهن بحجم الخسائر الماديّة والبشرية...
جُنّ جنونها وأسرعت خارج الغرفة علّها تفيق مما ظنّته أنّه مجرد كابوس؛ لكنّ مشهد زميلات السكن المتحلّقات في الصالة الرئيسية مذعورات باكيات أكّد لها أنّ الكارثة حقيقية؛ وبأنّ الزلزال وقع بالفعل، وأسماء الأموات تتوالى تباعًا، وعندما رأت عمّتها واقفةً على باب المدخل الرئيسي لسكن الجامعة، بملابس سوداء، ووجه شاحب، وعيون منفوخة من شدّة البكاء، سقطت مغشّيًا عليها...
ظلّت أسبوعًا كاملا غير قادرة على النطق، عاجزة عن الحركة... لكنّها صرخت بأعلى صوتها حين فتحت هاتفها، وشاهدت صور العشاء الأخير لعائلتها، وسمعت المقاطع الصوتية التي أُرْسِلَت لها، وصوت أمّها الدافئ:
- أحبك يا ابنتي.
مات جميع أفراد عائلتها تحت الأنقاض، ولم يتبق لها إلّا عمّتها التي كانت تقيم في مدينة أخرى؛ لذلك سَلِمَت من الزلزال، كما سَلِمت هي من الموت تحت الركام.
وهي ستعيش بلا شك كغيرها من المنكوبين ...المفجوعين... حاملة وجعًا لن يغادرها إلى آخر يومٍ في عمرها... لأنّ بعض الجراح لا تبرأ.. ولا أمل في شفائها، تظلّ ندِيّة... رَطِبة... قابلة للنزف متى ما لُمِسَت... وبعض الآلام لا تنتهي... تمتدّ في الشرايين... تتغلغل في الأعماق... إلى ما لا نِهاية... وكما أنّ هنالك نُدَبًا تشوّه الجسد... فالندَبُ التي تشوّه الروح أشدّ بشاعة وألمًا...
فما خلّفه الزلزال من أشباه الأحياء... من المذبوحين من الوريد إلى الوريد... الذين استثناهم الموت؛ ليجابهوا الحياة وحيدين... معدمين... يعيشون معنى كلمة رعب بكامل تفاصيلها...
فأرواح الأموات في السماء... وبعض الجثث التي استخرجت من تحت الركام، كانت لشهداء تفوح منها رائحة المسك... كما ذكر عدد من رجال فرق الإنقاذ الذين لا تربطهم بالضحايا أيّ صلة، أو بلد، أو دين...
فكل الذين ماتوا... تنفسّت أرواحهم الصعداء، وهي الآن تجوب أركان الكون الغيبيّ، والعالم الفسيح الممتد البارد العطر الذي نُؤمِن به، ونجهل معظم تفاصيله... وعلى يقين تام بأنّ رحمة الله هي الغالبة، وهي التي اصطفت هؤلاء الناس؛ لتكون حياتهم في العالم الغيبيّ أكثرُ جمالًا، وسلامًا مما كانوا يجابهونه على الأرض.
كل الذين ماتوا تحرّروا من طقوس الحياة... ومن التزاماتها المقيتة، والحرص على البقاء صامتين خوفًا من السجن والحبس، والذعر من مجرّد التفكير في الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت التي يعدهم أصحابها بالوصول إلى شواطئ أوروبا... فيغرقون في حدود بحار الوطن الإقليمية! وترفض الحيتان ابتلاع أجسادهم؛ لتطفو وتُشْهِد السماء على سعادتهم بالصعود إليها!
كل الذين ماتوا تحرّروا من حصار الوقت... ومن الثواني المترقبة... ولن يعانوا من رعب الزلزال مرّة أخرى ومن اهتزاز الأرض، أو تصدّعها، أو التنفيس عن غضبها... وعن جذوة النار في باطنها...
كل الذين ماتوا... ليسوا مضطّرين ليبرّروا للآخرين كيف ظلّ أحدهم وحيدًا على قيد الحياة، بينما مات جميع أفرادِ عائلته؟! وكيف أنّ الردم لفظه، وبصقه على الأرض سليمًا معافى دون البقية... ليفسرّ للآخرين تفسيرًا منطقيًّا وعلميًّا ما حدث معه بالتفصيل الممل... رغم أنّ صوته بُحّ وجفّت أوردته قبل مجابهة صفعات الأسئلة المستفزّة...
كل الذين ماتوا... لن يموتوا آلاف المرّات لأنّ الموت استثناهم من بين عوائلهم؛ ليفترسهم الوجع، والأسى، وهم يلملمون الأمتعة الشخصية المتناثرة... ويجذبون الدمى التي كان أبناؤهم يلعبون بها.... حيث كانت لكل دمية حكاية وقصّة ومناسبة، وصلة عاطفية مع الأطفال الذين ينامون في حضنها، ويستيقظون وهم يحملونها بين أذرعتهم الناعمة...
كل الذين ماتوا لن يكونوا مضطّرين للوقوف في طابور شبه منتظم للحصول على رغيف يسدّ رمقهم ويعينهم أثناء انتظار فرق الإنقاذ؛ لمساعدتهم في انتشال جثث العائلة التي بدأ بعضها يتحلّل... ويتفسّخ... وربما اختلط مع ركام البناء وحطامه، وطبعت بقع الدم صورهم على شظايَا الزجاج.
كل الذين ماتوا... لم يعد يعنيهم أنْ يظهر الحاكم باكِيًا أو ضاحِكًا... وأن يأمر بحبسِ مقاولي البناء وإحالتهم للقضاء الذي يصفونه بالعادل... أو الإقرار بأنّ الأبنية الشاهقة غير صالحة للسكن، وأنّها كانت مجرد هياكل مُلِأت بالتراب الذي سال! ولم يقاوم ارتجاج الأرض لمدّة دقيقة واحدة...
ولن يضطّروا لمشاهدة دموع التماسيح على وجوه بعض مهندسي البناء... ومن أباح لهم إكمال الأبنية الهَرِمة قبل تقادم الزمن... ومن حضر حفل افتتاح المجمّعات السكنية غير الصالحة للسكن... ومن روّج الإعلانات، ويسّر الأقساط للشراء... وجعلها على دفعات تُغْرِي المشتري...
كل الذين ماتوا... لا يعنيهم أنْ يدخلوا في عراك مع سارقي المقتنيات... والباحثين عن الأموال والذهب بين الركام غير آبهين برائحة الموت، ومشهد الدمار الذي كان كفيلًا بأنْ ُيفْزِعَ كلّ من يمتلك ذرّة من إنسانية... وأنْ يُقسِموا بأغلظِ الأيْمَان كَذِبًا ليثبتوا بأنّهم على صلةٍ بالضحايا.
لكنّ أرواحهم لا شك تهلّلت مع تكبيرات المنقذين، ودموعهم حين يُخرِجون أيّ طفلٍ من تحت الأنقاض، مرَدّدين بأعلى صوتٍ:
- الله أكبر... الله أكبر.
فيتلقّف المُنْقذُ الأوّل ُ الطفلَ الرضيعَ مُقَبّلًا باكيًّا كأنّه أعظم إنجاز في حياته، ثمّ يناوله لزميله الذي يحتضنه ثمّ يرفعه للأعلى فَرحًا بنَجَاته من الموت، وإخراجه من تحت الأنقاض سليمًا معافىً بلا أثرٍ لحطام أو ردم.
أو سعادتهم الغامرة وهم يقطعون الأسلاك الحديدية ويبعدون قطع الإسمنت، وينقذون الفتيات الصغيرات، أو الأميرات الصغيرات كما أطلقوا عليهن، مردّدين وسط تصفيق الحضور، وتهليلهم وتكبيرهم، ودهشتهم من وجودِ أحياء تحت الحطام:
- سبحان الله ... ما شاء الله...
وتأثرت ببكائهم المكتوم في أوقات الراحة شبه المعدومة لالتقاط أنفاسهم ومعاودة البحث تحت الأنقاض بعد سماع:
- شبه نبض... وشبه صوت... وشبه أنين...