د. محمد بن عوض المشيخي **
التعليم أساس التطور والنجاح في أيِّ أمة من الأمم على ظهر هذا الكوكب، فبالتعليم القائم على أسس علمية ومعرفة حقيقية وقيم دينية وأخلاقية ترتقي المجتمعات وتبني أمجادًا ومستقبلًا زاهرًا للوطن؛ بل والإنسانية جمعاء، لِم لا وقد كانت أول كلمة نزلت من السماء لخاتم المرسلين ومعلمنا الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كلمة "اقرأ"؛ تقديرًا لمكانة العلم والمعرفة في الدنيا والآخرة.
وفي هذه الأيام المباركة هناك اهتمام غير مسبوق من مختلف الجهات الرسمية والشعبية خاصة الفئة المثقفة بتطوير التعليم في هذا البلد العزيز. ويبدو لي أنَّ هذه الصرخات التي وجدت أصداءً واسعة من الجميع؛ لهي ظاهرة صحية تُعبِّر عن رغبة صادقة في الارتقاء بالتعليم بشقيه العام والجامعي، لكونها أتت من مخلصين وغيورين على هذا الوطن تحت القيادة الرشيدة لسلطان الفكر والحكمة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- يحفظه الله- الذي أكد في مناسبات عديدة على أهمية تطوير المنظومة التعليمية والنهوض بها إلى مصاف الدول المتقدمة وكذلك الاهتمام بالأجيال الصاعدة من الأطفال والشباب باعتبارهم ثروة الوطن ومستقبل عُمان، وذلك من خلال مرتكزات رؤية "عمان 2040" الطموحة.
لا شك أنَّ المعرفة هي أساس التفوق والنجاح في أي بلد؛ فلا يمكن النهوض بأي مجتمع من ثالوث "الجهل والتخلف والمرض"؛ إلا باعتماد استراتيجية وطنية واضحة المعالم تعتمد على إعداد المعلم المتمكن والكفؤ وتطوير المناهج والكتب الدراسية التي تتضمن آخر المستجدات العلمية، وقبل ذلك كله تهيئة البئية المناسبة والمناخ الاجتماعي والنفسي في مدارسنا الذي يجعل طالب العلم محبًا ومقدرًا للدراسة ويحترم المعلم، وهنا يكمن دور الأسرة التي ترعرع فيها التلاميذ لغرس القيم التربوية والأخلاقية وبناء جيل واعد يمكن الركون إليه في مستقبل الأمة وليس فقد حملة شهادات أو أوراق عديمة الفائدة.
لقد كتبت عبر هذه النافذة عدة مقالات عن فلسفة التعليم واستخلصنا عدة تجارب عالمية في تطوير التعليم، ولعل المقال الذي يحمل عنوان "أمة في خطر" الذي نشر في سبتمبر 2021، يُعد أهم هذه المقالات. فقد خلصت نتائج الدراسة التي هزَّت الولايات المتحدة الأمريكية من أقصاها إلى أقصاها عام 1983م؛ إلى تدني متوسط تحصيل طلاب المرحلة الثانوية في العلوم والرياضيات والكتابة الإنشائية، وكذلك ضعف مستوى طلبة المدارس بشكل عام في مهارات التحليل والنقد والإبداع، بينما حصل الطلبة الأمريكيون على المرتبة الأخيرة في سبع اختبارات على مستوى الدول المتقدمة. وكشفت الدراسة- التي اشتركت فيها الجامعات وأولياء الأمور إضافة إلى فريق العمل المشكل من الحكومة الأمريكية- وجود فجوة بين الأداء الحقيقي الضعيف للطلبة وبين التقديرات المرتفعة التي يمنحها الأساتذة لهم.
إن اعتراف الحكومة الفيدرالية والمجتمع الأمريكي بوجود مشكلة حقيقية في نظام التعليم، ساعد بشكل سريع على التعرف على التحديات ثم تقديم الحلول لتطوير التعليم ورفع مستواه لكي يرجع إلى مستواه السابق في المقدمة على مستوى دول العالم. وبالفعل رجعت أمريكا من جديد إلى الصدارة في مجال التعليم العام.
ووسط هذا الجدال الواسع والسماء الملبدة بالغيوم الذي شهدتها الساحة العمانية خلال الأيام الماضية، يظهر في الأفق السؤال الآتي: هل نظامنا التعليمي في السلطنة الأسوأ بين دول المنطقة؟!
بالطبع لا، فمخرجات الدبلوم العام في مدارسنا طرقوا أبواب مُعظم جامعات العالم من أمريكا غربا إلى نيوزيلندا شرقا، محققين بذلك أفضل النتائج متجاوزين في كثير من الأحيان أقرانهم من الدول العربية والأجنبية، كما إن جامعة السلطان قابوس بكلياتها التسعة والتي تحتضن حاليًا أكثر من 17 ألف طالب وطالبة وتخرج سنويا 3 آلاف خريجٍ لسوق العمل؛ تحتل موقع الريادة في مختلف الجامعات الخليجية. وأتذكر عندما كنت عميدًا لشؤون الطلبة عام 2010 حققت هذه الجامعة المركز الثاني ما بين 28 جامعة حكومية في الأسبوع العلمي لجامعات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والتي كانت تعقد كل عامين، فكانت المسابقة عبارة عن اختراعات علمية وإبداعات في الفكر والخطابة، وقد انبهر فريق التحكيم الذي تشكل من الجامعات الخليجية الحكومية بقدرات العمانيين وإمكانيتهم في تلك التظاهرة الثقافية التي احتنضنها جامعة الملك عبدالعزيز في جدة والتي أحرزت المركز الأول.
بالطبع تلك الاختراعات التي أنجزها الطلبة لم ترَ النور خاصة مشاريع الهندسة والعلوم والطب، فدعونا في ذلك الوقت إلى تحويل تلك الأعمال إلى مشاريع علمية من خلال حاضنات خاصة تشجع الشباب على الابتكار والمساهمة في الاقتصاد الوطني ولكن ذهبت معظمها أدراج الرياح بدون دعم حقيقي من المختصين في هذا البلد.
ما تم ذكره في السابق لا يعني بأي حال من الأحوال أن نظامنا التعليمي على ما يرام بل يحتاج إلى تطوير شامل في مختلف المجالات وعلى وجه الخصوص:
1. تطوير الجامعات الخاصة وإلزامها بالمعايير العلمية والمتمثلة في توفيرأساتذة على مستوى عالٍ ومناهج وطنية مناسبة لسوق العمل، وكذلك مصادر تعلم تواكب الطفرة التكنولوجية للجيل الخامس وقبل ذلك كله خلق بيئة أكاديمية مشجعة، فالكليات الجامعية في السلطنة بعضها أقرب للمدارس الابتدائية منها للتعليم الجامعي، لأن أصحابها قد جنحوا للربح المادي وليس التعليم كغاية.
2. كما يجب إنصاف المعلم في هذا البلد ووضعه في المنزلة التي يستحقها معنويا وماديا، فهو مربي الأجيال وحامل راية العلم والمعرفة، ورفع راتبه أصبح من الضروريات لكي نمنحه الفرصة والوقت للتحضير العلمي للدروس، وشراء الكتب والأجهزة المناسبة التي تعينه على أداء واجبه المقدس، كما إن تحسين وضع المدرس ومضاعفة راتبه سوف يجعل من هذه المهنة جاذبة للمتميزين علمياً لدخول مهنة التدريس في المستقبل كما هو الحال في كثير من الدول المتقدمة في مجال التعليم.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري