حاراتُنا بلا واعظين!

 

 

د. سلطان بن خميس الخروصي

sultankami@gmail.com

أُثر عن نبي الأمة قوله "الدين النَّصيحة" فلا ضير أن يُفقِّه الناس بعضهم بعضًا في أمور دينهم ودُنياهم، فما حلقات الذكر وموضوعاتها الفقيّه والمجتمعية والفكرية والسلوكية إلا مسارات تنويرية سامية تُعلِّم الجاهل، وتُذكِّر الغافل، وتُنمِّي مهارات وقدرات المُتحدِث، وتُعمِّق أواصر الأُلفة والوحدة الوطنية بين شرائح المُجتمع، وتُخرِج الغثَّ من السمين، وتنجلي بالمناقشات الصريحة الصحيحة مَواطِن الصَّواب عن الخطأ، والبيِّنَة عن الشُبهات، وتُعاِلج الكثير من قضايا المجتمع المتوالية بكل درجاتها وحساسياتها بما يخدم الصالح العام.

قد يتفق البعض أنه وقبل 8 سنوات- تقريبًا- كنَّا نشهد ضجيجًا محمودًا في حاراتنا من الإخوة والأخوات الأعزاء الذين يُفقِّهون الناس في أمور الدين والدنيا في مساجدنا الصغيرة، وجوامعنا الكبيرة، ومجالسنا العامة، وأنديتنا المفتوحة، وقاعاتنا الزاهية، فيتجاذبون أطايب القول كما يُنتقى أطايب التَّمر، فتُناقش قضايا المجتمع بكل أريحية واطمئنان وأمان، وكان محدثونا يطورون من أنفسهم بين الفينة والأُخرى في الأسلوب، والطرح، والفكر، والتَّحدث، والموضوعات، وكنا نشهدُ إقبالًا غير مسبوق يتعاظم ويتنامى مع مرور الوقت، فمثل هذه التَّجمعات المسؤولة هي صمام أمان الدولة؛ فُتنمى أفكار وعقليات وممارسات أبناء المجتمع بما يخدم الصالح العام، ويعزز ثقافة المسؤولية، وإعمال العقل والتدبر والتفكر، والابتعاد عن الانقياد أو الانصياع التام لكل ما تُفرزه الحداثة.

إلا أننا بدأنا نشهد شُحًّا كبيرًا في هذه الممارسات الجميلة؛ بل أصبحت مثل هذه النماذج المحمودة من النوادر، فخلت حارُاتنا من الواعظين والناصحين والمُوجِهين، واقتصر بعضها بعد أشهر عجاف في الجوامع الكبيرة وموضوعاتها لا تتناول إلا المسائل الفقيه فحسب- وليس ذلك تقليلا من شأن التفقه- فلا تُطرح إلا موضوعات الوضوء، والصلاة، والزكاة، والصيام، وزيارة الأرحام، بينما لا يتم التطرق إلى مواضيع حساسة يعاني منها المجتمع وهي في تطور خطير مستمر، كخطورة التعدي على الوطن وتاريخه واستصغار شأنه، والانسلاخ من الهُوية الوطنية والتنصُّل من المسؤولية المجتمعية، وقضايا الزنا، والمثلية، والنِّسوية، وتجاوزات مراهقي الثقافة والأدب والفلسفة على ثوابت المجتمع وفلسفته القويمة، وقضايا المخدرات وغيرها من قضايا الساعة التي بدأت تدق ناقوس الخطر في المجتمع وفق مؤشرات الجهات المراقبة للأمن المجتمعي.

حينما نتحدث عن الواعظ فلا يعني ذلك الموظفين من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية والتي تتحمل العبء الأكبر والمسؤولية الأعلى في هذا الشأن، لكننا نتحدث عن كل رقم اجتماعي له وزنه وقيمته ومكانته بين شرائح المجتمع، وعن الباحثين البارعين والمتحدثين المفوَّهين والمدِّربين والمثقفين النُبلاء وعلية الناس أصحاب الكلمة الطيبة، وعن كل قلم وقلب وعقل مستنير يمكنه أن يوقد شمعة تُنير للآخرين الطريق السَّوي ويخدم أمته ووطنه ومجتمعه، فليس من الصواب أن يكون لمثل هذه الممارسات المنشودة موسم كرمضان فحسب؛ بل هي ظاهرة صحية وطنية منشودة، وليس من الصواب أن يكون من ينصح الناس ويحدثهم بهيئة "مطوَّع" فنحن بحاجة لكل مبدع ومتميز يلج إلى عقول وقلوب الناس بالكلمة الطيبة، والنصيحة الناضجة، والتجارب الناجحة، والتوجيه السديد.