علي بن مسعود المعشني
من الطبيعي والمنطقي أن يكون عنوان المقال "غياب التعليم وتخلف الأمم"، وليس دور التعليم في تخلف الأمم، وهو السبب الرئيس في نهضات الأمم وسيادة الدول غالبًا.. لكننا وفي واقع اليوم نلمس دورًا وظيفيًا وسلبيًا للتعليم إلى درجة تسببه في تخلف أمم وشعوب رغم وفرة وغزارة العلوم والمعارف بها والانتشار الواسع للمؤسسات التعليمية من كافة مراحلها وتوفرها لأبنائها.
العبرة هنا ليس فيما يُذكر من أعداد منتسبين ومؤسسات وكوادر وحجم إنفاق سنوي.... إلخ، فكلها لا تساوي شيئًا حين نحتكم للنتائج على الأرض في ظل غياب وتغييب فلسفة التعليم وقدسيته ورسالته. ونظرًا لتشعب الموضوع وعمقه وأبعاده، فسأكتفي بشذرات عن الموضوع من هنا وهناك، وفي مجموعها قد يتشكل صلب الموضوع ومراميه وتشخيص حالته.
يقول الدكتور شاكر الفحام- رحمه الله- الرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية بسورية: "من واقع دراسات المجمع، تلاحظ أن أغلب الطلاب السوريين الدارسين للعلوم التطبيقية ممن نالوا درجة الإجازة (ليسانس/ بكالوريوس) باللغة العربية من الجامعات السورية ثم التحقوا بجامعات أجنبية لمواصلة دراساتهم العليا (ماجستير/ دكتوراه)، كانوا من المتفوقين تعليميًا في تحصيلهم العلمي العالي أولًا، والأكثر قدرة على التواصل وخدمة المجتمع بعد عودتهم للوطن ثانيًا، والسبب الرئيس هو الخزين اللغوي العالي لديهم من اللغة الأم "العربية" والذي أكسبهم مهارات التفكير والتواصل، والعكس تمامًا لمن نالوا تعليمهم العالي الجامعي وما بعده من جامعات أجنبية.
وهنا نرصد أول سبب من أسباب فلسفة التعليم وهو أن يكون باللغة الأم ليرتقي بها ويرتقي من خلالها؛ حيث لم ترتقِ أمة ولم يرتقِ شعب عبر التعليم إلا من بوابة لغته الأم، والأمثلة هنا لا حصر لها حول العالم من تجارب: تركيا واليونان وبلغاريا وإيران وإندونيسيا، وصولًا إلى الكيان الصهيوني الغاصب والذي أحيا لغة ميتة وهي العبرية؛ ليجعل منها لغة علوم ومعارف عصرية؛ فالعبرة هنا ليست في إمكانيات وعدد سكان وحجم مساحات جغرافية، ولا عواطف ومشاعر مبتذلة لإحياء لغة ما؛ بل إرادة سياسية وهوية وسيادة، وعمق ووعي في القرار.
وفي المقابل، نجد بلدانا مثل الهند اختارت اللغة الإنجليزية كلغة إدارة وعلم وهوية لغوية جامعة لمكونات الهند اللغوية والعرقية والطائفية كمخرج قسري لها وليس طوعي لتجاوز تلك المكونات وتوحيد نظرتها العلمية، وفوق هذا بقيت اللغات الهندية حاضرة وبقوة في مراحل التعليم ووسائل الإعلام والفنون والسينما وغير ذلك، وهذه حالة استثنائية لا يُعتد بها ولا يُقاس عليها.
تشير دراسات غربية عميقة عكفت عليها جامعات عريقة، أن السبب الرئيس لتفوق ونبوغ الطالب العربي- فيما مضى- هو الخزين اللغوي الكبير من لغته الأم؛ حيث يعكف طالب العلم في الأقطار العربية، في الكتاتيب والزوايا والمحضرة (بموريتانيا) على حفظ القرآن الكريم أولًا، وبهذا تتوفر له 50 ألف مفردة، ثم ألفية ابن مالك؛ حيث يضيف آلاف المفردات إلى خزينه اللغوي، ثم يأتي دور القصائد والمعلقات والأحاديث الدينية ليصل خزينه إلى مائة ألف مفردة على الأقل.
بينما ذهبت تلك الدراسات إلى المقارنة بالخزين اللغوي لدى الطالب النابغ في الجامعات الغربية، والذي لا يتجاوز خزينه 16 ألف مفردة!!
من هنا يمكن القول والتأكيد على ضرورة سعة الخزين اللغوي للطالب كون الخزين اللغوي يرتبط ارتباطًا عضويًا بمهارات التفكير وغزارة التعبير. لهذا حارب الغرب الكتاتيب والزوايا والمحضرة ووصفها- كعادته- بالتعليم التقليدي أي المتخلف واستبدلها بما أسماه بالتعليم العصري الحديث، هذا التعليم الذي جعل الخزين اللغوي للطالب العربي في مجمله اليوم لا يتعدى ثلاثة آلاف مفردة، نصفها عامي والنصف الآخر فصيح، الأمر الذي خلق حالة من الإرباك اللغوي الحاد لدى جيل كامل، فالخزين اللغوي من اللغة الأم هو الركن الثاني من فلسفة التعليم.
وللعلم، تُمارس على موريتانيا ضغوط دولية هائلة لمحاربة نظام تعليمها المعروف بـ"المحضرة"، هذا التعليم الذي أسماه الدكتور محيي الدين صابر- رحمه الله- الرئيس الأسبق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بجامعة الصحراء المتنقلة، لما وجد فيه من ثراء لغوي ومعرفي ينافس أكبر وأفضل الجامعات في العالم.
وللحديث بقية...