د. صالح الفهدي
أرادتْ إحدى الجهات أن تتخلَّص من أحد المديرين لأخطاء ارتكبها فابتعثته لدراسة الدكتوراه! ما أجملهُ من عقاب، وما أحسنه من إقصاء!، طبعًا ذلك المدير لم يعد للجهة التي ابتعثته، ولم تكن تريده هي في الأصل أن يعود لأنَّ سمعته سيئة، وأخلاقه رديئة، فأُخرج للتقاعد مباشرةً بعد عودته!
أكاد أُجزم أنَّ أغلب الجهات الحكومية خاصة لا تستفيد من التدريب والابتعاث لموظفيها لأنها لا تملكُ ثلاث أدوات رئيسة هي: أولًا: تقييم الحاجة الفعلية للتدريب والابتعاث؛ لأنَّ الحاجة الفعلية تنبثقُ من إستراتيجية محددة يضعها المتخصصون في الموارد البشرية الذين يحددون احتياجات المؤسسة من الموارد البشرية ونوعيتها بعد أن يستقوا ذلك من الإستراتيجية العامة للمؤسسة نفسها. ثانيًا: تحديد من هو الأحقَّ بالتدريب والإبتعاث، لأن عوامل أُخرى تدخل في هذا التقييم وأهمها العلاقات الشخصية التي تحسم الأمر لصالح الأقرب وليس الأكفأ. ثالثًا: ما هي الدورات أو التخصصات التي ستفيد الجهة صاحبة الشأن؟ لأن أغلب الدورات والتخصصات عامة للقطاع الحكومي والخاص، وتشتمل على مفاهيم ومباديء فيها من العمومية ما يقلل من الاستفادة منها.
إنني على قناعة دائمة بأنَّ الوزارات تخطئ حين تبتعث موظفيها للحصول على شهادات معينة، وأنا هُنا أتحدث من الناحية العملية التي ترتبط بتحسين جودة الأداء، والارتقاء بالعمل، لأن برامج الدراسات العليا لا تمنح الموظف معرفةً خاصَّة في مجال عمله، بقدرِ ما تمنحهُ معرفة عامة، وأستثني هنا دراسة التخصصات الدقيقة كالطب وغيره من العلوم. أمَّا الدورات العملية المكثَّفة فيما يتعلق بموضوع عمله فهي الأهم والأكثر نفعًا للموظف؛ لأن الدورات "المُفصَّلة" تعالج إشكاليات، وتقدم حلولًا، وتحسِّن قدرات، فالأجدى لأية جهة أن تقيم دورة أو ورشة عمل مكثَّفة ومتخصصة في تعزيز قدرات معينة من أن تبتعث لتدريب أو لتأهيل عام.
الإشكالية أن جهات كثيرة لا يهمها العائد من التدريب والدليل على أنه لا يوجد في أغلب الجهات الحكومية ما يسمَّى بـ"تقييم العائد من التدريب"، فكما خرج الموظف من مكتبه للتدريب يعود إلى مكتبه ثانية بعد التدريب، وكأنَّ شيئًا لم يكن، وكأنَّما عاد من إجازة! إذن ما فائدة التدريب إن لم يُقيَّم، ولماذا ترسل الجهات الحكومية موظفيها إن لم تحرص على تقييم التدريب، وتستفيد لتحسين أدائها من عوائد التدريب؟! ولماذا تركن موظفيها الذين ابتعثتهم لدراسة الماجستير والدكتوراه جانبًا وكأنَّما كانوا يقضون فترات عقوبة ثم عادوا وهم يحملون إثمًا كبيرًا! لم ابتعثتهم جهاتهم إن لم تكن قد رسمت لهم المسار الوظيفي من قبل أن تبتعثهم؟!
هذا يدلُّ- كما قلت- على العشوائية في التدريب والتأهيل، ولا يدلُّ على خطة واضحة، ومسارات تصاعدية لتنمية أداء الجهة ذات الشأن، كما يُعزى هذا الأمر لمجرد أن تقوم جهات التدريب في المؤسسات بإرسال (أرقام) معينة من الموظفين لدورات تدريبية، أو لمؤهلات دراسية، هذا كل ما في الأمر، أما العائد من كل ذلك فلا يهم، الأمر الذي يعتبر إهدارًا واضحًا للموازنات إذ لا تقابله استفادة حقيقية وملموسة.
قال لي ذات مرة أحد المسؤولين الكبار في إحدى مؤسسات القطاع الحكومي: "ما نقوم به في جانب التدريب هو مجرّد اجتهادات لا تسير وفق خطة محددة". وهذا أمر طبيعي لفقدان الإستراتيجة الخاصة بالموارد البشرية التي لا يمكن وضعها في حال فقدان الإستراتيجية العامة للمؤسسة.
لا يمكن- إذن- بناء أعمدة دون قاعدة، والغريبُ في الأمر أن الأخطاء المتعلقة بالتدريب والتأهيل متكررة منذ عشرات السنين، لا يريد أحد أن يقوم بإِصلاحها، أو تقييمها، على أنني أُثني على بعض جهات القطاع الخاص التي تستفيد من الدورات التخصصية "المفصلة" لموظفيها، الأمر الذي يساعد في تطوير قدراتهم ومهاراتهم العملية.
إِنني أدعو لمراجعة توجهات الجهاز الإداري للدولة في جوانب التدريب والتأهيل لأن أموالًا تنفق في هذا الجانب دون استفادة حقيقية، ومؤثرة في الواقع العملي، للأسباب التي ذكرتها آنفًا.