علي بن سالم كفيتان
قمتُ على آذانٍ جميلٍ يجعلك تقفز من فراشك ولو لم تنم سوى ساعة واحدة، كان سكن الوزارة المحاذي لجامع السلطان سعيد بن تيمور بمسقط العامرة، ملتقى للقادمين من الولايات والمحافظات البعيدة؛ فالكل يجد مكانه حسب عدد الأيام التي سوف يقضيها هنا، وأثناء خروجي للجامع الذي لا يفصله عن السكن سوى عبور الشارع، رافقتً إسماعيل، عامل بيت الضيافة، كان رجلًا بشوشًا وخدومًا إلى أبعد حد.
كانت هذه هي المرة الأولى التي ألجُ فيها إلى هذا الصرح الديني والمعماري الرائع، والأجمل أن تصادفَ ذلك مع صلاة الفجر. كل شيء في الداخل يجعلك تنبهر.. من السجادة الضخمة، إلى السقف المنقوش بزخارف إسلامية مُتقنة، إلى الأشخاص الجالسين في هدوء وسكينة، يتلون كتاب الله، وهم من جنسيات مختلفة ومن مشارب عدة. وبعد إقامة الصلاة تلا الإمام الآيات بصوت رخيم لم أسمعه من قبل؛ حيث يأخذك بعيدًا إلى عالم الرحمات.. كان الإمام شابًا يعتمرُ عمامة بيضاء وثوبًا أبيض ناصعًا، وذي لحية خفيفة يشعُ من وجهه النور، فكانت بداية جميلة لنهار جديد.
أدرتُ محرك السيارة الحكومية التي استقبلتني في المطار الليلة الماضية، فمن المتعارف عليه في ذلك الوقت أن تجد المركبة المخصصة لك في مواقف خاصة بالمطار والمفتاح عند حارس تلك البوابة، وما عليك سوى توقيع ورقة الاستلام والانطلاق إلى ربوع العاصمة. حضرتُ مبكرًا للوزارة قبل السابعة بنصف ساعة تقريبًا، وتوقعت ألّا أجدُ أحدًا، لكن المواقف كانت شبه ممتلئة، وبالكاد وجدت واحدًا لسيارتي. للوزارة بوابة فخمة وبهو جميل، فهي إحدى أحدث المباني الوزارية في ذلك الوقت، كانت وزارة بثلاثة وكلاء وثلاثة قطاعات حيوية مهمة، تعمل معًا بتناغم نادرٍ، وكان عليَّ التوجه إلى الطابق الثاني؛ حيث المديرية العامة لصون الطبيعية. وفي المدخل وجدتُ الراسبي والمخيني والكيومي وغيرهم، فقد كانت تربطنا علاقات عمل قوية. الجميع يتحلق في غرفة أبو بدر لتجربة الحلوى وصنوف التمر العُماني الحصري واحتساء القهوة القادمة من محامص شمال الشرقية بنكهات لا يمكن تكرارها. حضر العجوز الإنجليزي ديفيد أنسل، وانضم للمجموعة، وبعدها سألني بعربيته الممتازة: "أنت علي؟ من ظفار؟" ثم حدّثَنَا عن تجربته المريرة في آخر ستينيات القرن الماضي، هناك حيث أصيبت سيارته بلغم أرضي عندما كان في دورية اعتيادية في منطقة عرام.
اتضح لي أنَّ مهمتي لهذا اليوم هي مرافقة الخبير البيئي الإنجليزي ديفيد أنسل إلى قرية بلد سيت في حضن الجبل الأخضر، وكانت لدى الخبير معرفة واسعة بمعظم ولايات شمال عُمان، بحكم عمله المبكر في السلطنة؛ فقد كان متطوعًا من قبل سلاح الجو الملكي البريطاني لشق الطرق وتوصيل الخدمات في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومن ضمنها القرية التي سوف نتوجه إليها، وتسمى بلد سيت. استغربتُ من فرط حماس الرجل لهذه الزيارة، وكأنه سيعود إلى لندن ويقابل أفراد أسرته، فقد اشترى العديد من الهدايا حتى اكتظت السيارة بالأغراض، وهو يقول لي بصوت عالٍ "هذه حال الشيخ خلفان، وهذه حال الوالدة مريم"، حتى إنه يعرف رجلًا ليس له أبناء يسكن في بستانه بأقصى القرية، فقال لي "غدانا اليوم عند الشايب سعيد". وأنا منبهر من هذا الفعل. وفي الطريق إلى نخل، توقفنا عدة مرات لالتقاط الصور، فكل شيء يشغل بال هذا الرجل المخضرم. وأذكر أنه كان مستاءً من أبراج الاتصالات بألوانها المنفّرة ومواقعها البارزة التي تخرب الصورة الطبيعة الجميلة للجبال والسهول، وأعتقد أنه قدم ورقة عمل في أحد المؤتمرات عن ذلك الصخب النظري في جبال عُمان.
وبعد أن انتهينا من الطريق الأسفلتي، دخلنا في وادٍ سحيق، وهو يحدثني عن كل شجرة وحجر طوال الطريق، وبتعمقنا في الوادي الذي بدأ يضيق، بدأت الطريق تتمايل كالثعبان على طرف الوادي الغربي، وتضيق كلما تقدمنا، حتى تصبح طريقَ مسارٍ واحدٍ فقط، وقال ديفيد متسائلًا "أنت جبّالي؟" أجبته "نعم"، فقال: "على هذا ما تخاف من الجبال؟" فأجبته "بالعكس.. عندما أراها أحس بالأمان"... فضحك ثم قال "أنتم شياطين.. كدت أن أموت بسببكم"، هنا قلت له: "وما الذي جعلك تأتينا عبر كل هذه المسافات البعيدة؟"، سكت، ثم دخلنا في خانق يطل على هاوية سحيقة وطريق ضيق، في هذه اللحظة دخلتني رهبة المكان والخوف من سياقة الرجل العجوز، لكنه أثبت أنه سائق عسكري من الطراز الرفيع، عندما تخطينا تلك العقبة، فقد كانت الأرض مقفرة، والجبال حالكة، ولا تكاد ترى سوى الخضرة اليانعة لأشجار السدر في عمق الوادي، وكان ديفيد يرددُ "هذا موسم النبق (السدر) وكذلك العسل أبو طويق اللذيذ سنتذوقه اليوم".
وللحديث بقية مع ديفيد أنسل.