محمد بن رضا اللواتي
في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وبمساعدة معاونيه من أمثال دونالد رامسفيلد وديك شيني وكولن باول وآخرين، رُوِّج كثيرًا لمصطلح "المجتمع الدولي" الذي وصفه صامويل هنتنجتون في كتابه "صراع الحضارات" بأنه مصطلح يُعّبر عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية فقط، ويخفي تحته الولايات المتحدة بالدرجة الأولى.
وهكذا، فالفرنسيون يقصدون بكلمة "الحضارة" (la civilization) الغربية منها فقط، وكذا البلدان الأوروبية التي يتصور أهلها أن التحضر في معناه الحقيقي لا يتحقق إلا في إطار حضارتهم فقط. (انظر: حسين نصر: حوار بعنوان: العلمنة حولت الغرب إلى حضارة بلا روح. حاوره: حامد زراع: الاستغراب العدد 1).
الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من جانبه، وحتمًا بمساعدة الزمرة المحيطة به، وفي أحد خطاباته الأخيرة استخدم مصطلح "العالم الحُر"، وذلك عندما اتهم في خطابه ذاك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يعمل على زعزعة أسس العالم الحُر، وقال إن العالم الحُر سيُحاسبه!
آن م. سلوتر في مقالها بعنوان "من يشكّل جزءًا من العالم الحُر؟" (المنشور في جريدة عمان بتاريخ 30 يناير 2023) تساءلت: ما الذي يشكل العالم الحُر على وجه التحديد؟ وما الحد الفاصل بينه وبين العالم غير الحُر؟ هل احتلال دولة أخرى حُرة مستقلة وابتلاع أراضيها وطمس اسمها وهجران سكانها حُرية؟ مرة تلو أخرى يبدو خُبث الولايات المتحدة جليًا؛ فالحرية تساوي الرأسمالية المتوشحة والإمبريالية اللا أخلاقية التي تروجها لجعل العالم الذي فقد حريته وأضحى دمية بين يدها هو العالم الحُر!
تمامًا كما يحدث اليوم في العالم؛ فالتقنيات الحديثة يُراد لها أن تكون هي المُعّبر عنها "بالعلم" فحسب؛ بل الأمر أضحى على هذا المنوال اليوم. إلى هذه الحقيقة أشار الفيلسوف مارسيل غوتيه عندما قال في حوار له بعنوان "سمة العالم الحديث: الجهل": "نحن نصبح أكثر ثراءً وتقنيًا، أكثر قوة وسُلطة، لكن مستقبل البشرية لن يؤمَّن بفضل تعميم انتشار هاتف آي فون 8". (حاوره: ماثيو جيرو. نظر: الاستغراب العدد 1).
زلزال سوريا تحديدًا- والذي صنفه البعض مع الزلزال التركي بـ"فاجعة القرن"- بعث رسالة جلية لمن يستطيع قراءتها، وهي أن هذا العالم ما عاد حُرًا، خلافًا لما تريد الولايات المتحدة ترويجه. هذا العالم فقد بُعده الإنساني؛ فالمساعدات العالمية تنهال على منكوبي تركيا، في حين تعمل القيود الأمريكية التي كبّلت الحريات بتجريم التحرك حتى من النوازع الإنسانية، وعمَّا قريب ستتمكن هذه الحضارات المشوهة من عدّ الإنسانية جُرما يعاقب عليه القانون إن وجد أحدهم لا يزال يحتفظ بشيء منها.
وإذا كان البعض يظن- كما هو الحال مع آن م. سلوتر (في مقالها المشار إليه سابقًا)، وكذلك الزميل رئيس تحرير جريدة الرؤية في أكثر من مقال منشور له- أن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا قد تمنح للبلدان فرصة أن تختار نفسها، وأن الوقت قد حان أن نختار نحن "أنفسنا" ومصالحنا، فإنه يبدو لي أن زلزال سوريا قد يمنحنا فرصة اختيار "إنسانيتنا" واستعادتها والعمل على تحصيلها مجددًا- هذا إن كنَّا قد استحصلناها سابقًا وفقدناها في سجون الولايات المتحدة الإعلامية والتقنوية- لأنه وإذا لا سمح الله عجزت العواطف الجياشة لمناظر الأطفال الذين جرى- وما زال يجري- انتشال أجسادهم الطرية من تحت الأنقاض، وغيرها من المناظر المروعة والمؤثرة في البُعد الإنساني للعالم، إن عجزت هذه المناظر من أن تُقطع قيود الحضارة المتوحشة على بُعدنا الإنساني، نكون بذلك عنوانًا لانتصار الآلة على الإنسان، وعنوانا لسُبات هذه الأخيرة في شتاءات نكبة العصر.
ولكن...
قد يعترض معترض قائلًا: ألم نشبع بعد وإلى حد التخمة من مشاهدة هذه المناظر في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها من بلدان هذا العالم....؟!
يبدو أنه اعتراض عصي على الخدش!