د. صالح الفهدي
ألقت استقالة رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا أرديرن، الضوءَ المركَّزَ على ما يُسمَّى "متلازمة الاستنفاد" الناجمة عن الضغوط العملية المرهقة جدًا، والتي تفوق طاقة الإِنسان، وهي بالمناسبة أصغر رئيسة وزراء في العالم (37 عامًا) قائلةً في إِعلان استقالتها الصادم: "ليس لديَّ ما يكفي من الطاقة" وتضيف: "الساسة بشر.. نقدم كل ما في وسعنا لأطول فترة مُمكنة ثم يحين الوقت، وبالنسبة لي حان الوقت الآن".
جاءت هذه الاستقالة اسثنائية تمامًا، فلم نسمع مُبررًا من قبل لمسؤول كبير في مقام رئاسة الوزراء أن يستقيل بسبب "استنفاد الطاقة"، لكنَّ القرار كانَ إنقاذًا للنفس قبل فوات الأوان؛ إذ يُعاني الملايين في العالم من ضغوطات العمل التي تفوق طاقتهم للتكيِّف والاستيعاب؛ الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية في عام 2020، لتصنيف المشكلة ضمن الدليل العالمي للأمراض؛ حيث تصفها بأنَّها "متلازمة ناتجة عن إجهاد مزمن في مكان العمل لم تتم إدارته والتعامل معه بصورة ناجحة".
ومن المؤسف أن كثيرًا من المسؤولين لا ينتبهون إلى خطورة "متلازمة الاستنفاد" أو "الاحتراق الوظيفي" وهي حالات قد تؤدي في أسوأ الأحوال إلى الوفاة؛ فالإِنسانُ يمتلكُ طاقاتٍ عقلية وجسدية محدودة لا يمكن لشيءٍ أن يعوِّضه ما يستنفد من طاقةٍ تتعدَّى قدراته عدا الرَّاحة، وتنويع اهتماماته، وتجزأةِ وقته.
وهناك شريحة من المسؤولين قد تسببوا في حالات الإجهاد، والإرهاق التي أوصلت موظفيهم إلى كُرْهِ البيئة العملية، والنفور منهم، وضعف الأداء، وعدم التركيز في العمل، وتقليل جودة العمل؛ لأن مسؤوليهم وضعوا تصنيفات خاطئة لموظيفهم ينال بموجبها كل من يضغط على نفسه، ويرهقُ طاقته، ويقضي ساعات طويلة بعد عمله الرسمي الإشادة، والثناء، والترقية في المناصب!! هذه طريقة خاطئة؛ بل وغير إنسانية ولا مهنية؛ لأنها لا تتعامل مع الموظف كإنسان له طاقة محدودة، وجهد معيَّن، وإِنما كآلة لا تتوقف، وإن توقفت فبسبب خللٍ وعطل!
في عام 1974، عرّف الطبيب والمعالج النفسي هربرت فرودنبرجر الاحتراق الوظيفي (Burnout) في كتابه "الثمن الغالي للإنجاز العالي" بأنّه "التكلفة المُرتفعة للإنجاز العالي، والتي تتمثل في حدوث "انقراض" أو "تقلص" للدافع أو الحافز الذي يُحركنا في الحياة أو يدفعنا للاستمرار في العمل وتحقيق التطور المهني، والذي يحدث بشكل خاص عندما تفشل جهود الشخص في تحقيق النتائج المرجوة".
ولا يقتصرُ الأمر على الضغوط في ساعات الدوام الرسمي، وإنَّما يُطلب من الموظف أن يستمر في عمله لينُجَزْ وكأَنَّ ذلك الاستمرار ميِّزة تضافُ للموظف، في حين أن المسؤول الحصيف يفترض ألا يمارس الضغوط على موظفيه للقيام بأعمالٍ فوق طاقتهم؛ لأن ذلك سيؤدي إلى إحداث مشكلات جسدية ونفسية وعقلية قد تظهر لاحقًا عليهم.
لقد أقرَّت بعض الدول- مثل ألمانيا وفرنسا والبرتغال والمجر- قانونًا يحظر على أرباب العمل التواصل مع موظفيهم بعد ساعات العمل، وهو ما يعني عدم استمرارهم في أعمالهم بعد ساعات العمل الرسمية نتيجة للإرهاق، والانتهاك المتواصل مع مسؤوليهم لأوقاتهم الخاصة مع أُسرهم، أو خلال ممارسة أنشطتهم، وذلك تعزيزًا للصحة العقلية للموظفين، وتحسين التواصل بينهم وبين المسؤولين.
وإذا كان كل مسؤول في أيَّة جهة عمل يريد زيادة الإنجاز، فإنَّه ليس من المنطق أن يحقِّق ذلك المطلب عن طريق الضغط على موظفيه حتى أثناء العمل؛ حيث إن بعض المهام تحتاجُ إلى سِعةٍ من الوقت، أو بعضها يحتاج إلى عدد أكبر من المُنجِزِين غير المتوفرين، في حين لا تتوافق أَعمال أخرى مع قدرات الموظف أو طاقاته، لهذا فإنَّ من الكياسة أن يقدِّر المسؤول كل هذه الأُمور، حتى لا يتسبَّب لموظفيه بمعضلات صحيَّة يكون هو سببًا فيها.
إنَّ من نجاحات أيَّة مؤسسة ليس اختيار الموظف المناسب للوظيفة وحسب، وإنَّما بما يسمَّى "Employee Retention" ويعني المحافظة على الموظف، ولا شك أن أحد أهم الوسائل لذلك، يتمثل في عدم ممارسة الضغوطات التي تتعدى طاقات الموظف أو تنتهك أوقاته الشخصية والاجتماعية.
لا يمكن إنسانيًا- بل ومهنيًا- لأيِّ مسؤول أن يحقق الإنجازات على حساب موظفيه، فهو يستنقصُ الموظف الذي يخرج من عمله بعد انتهاء ساعات دوامه، وفي المقابل يمتدح ذلك الذي يخرج من عمله مساءً، على حساب وقتهِ مع أُسرته، أو راحته الشخصية، فهذه سياسة إدارية خاطئة تدفع الموظف المضغوط إلى حالة الاستنفاد التي تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنها مكوَّنة من ثلاثة عناصر: الشًّعور بالإرهاق، والانفصال العقلي عن الوظيفة، والأداء الضعيف في العمل.
تمعنوا أيها المسؤولون، وصحَّحوا مفاهيمكم المعكوسة، وخذوا في اعتباركم أن موظفيكم بشر، فالكأسُ تفيض، والكيل يطفح، والإِنسان يُستنفد.