الرومانسية والواقعية في "كأس الخليج"

معاوية الرواحي

مثيرٌ للعجب والاستغراب ذلك الفارقُ بينَ الواقع الميداني لحدث مثل كأس الخليج، والواقع الآخر المغاير البديل الذي يُطْرَح من قبل المؤسسات الإعلامية عن تظاهرةٍ واحدةٍ.

الانطباعُ العام الذي يأخذه المتلقي المتابع للمؤسسات الإعلامية، والبيانات المُرسلة من الاتحاد العماني لكرة القدم، يوحي بأن كل شيء على ما يُرام. هذا هو الفهم الرائجُ والمتداول، العراق يعود إلى الأمس الجميل، كأس الخليج تشارك فيه ثمان دول، والروح المبنية على الفهم السياسي قادمة من ضرورات لغة المجاملات الرسمية. المتلقي لأخبار كأس الخليج يفهمُ ذلك من فرطِ ما الصورة وردية ومفرطة في الود، وقد وصل الحال بالبعض إلى أن يتمنى فوز منتخب العراق بكأس الخليج على الرغم من مشاركةِ منتخب بلادِه في البطولة! التصرف الذي عدَّه البعض مستفزًا.

هذا هو الفارق الأبرز بين المتلقي الفردي الذي تربطه مع البطولة علاقة مشجع، وذلك الذي يتعامل مع البطولة كمنظرٍ للشؤون الاستراتيجية الخليجية. المشجع الفرد يتحدث من منطق واضحٍ ومُحكم: مُنتخب بلادي يشارك في بطولة، أريد لمنتخب بلادي أن يكون بطلا لها. المأخوذ بتدافع الشؤون السياسية، والتاريخية، والذي يتحدث منطلقًا من خلفيات معظمها لا علاقة له بكرة القدم يعيش في فقاعةٍ أخرى. فقاعة الود العام، والصورة الوردية، وأصبحت كرة القدم بيانات توحيدية، وتوزيع للمكافآت التاريخية، وتحديد للاستحقاق، ولا عجب أن يثير ذلك الاستفزاز، ليس لأن المتلقي الفرد (المُشجِّع) يرفض هذه السياقات، ولكن لأن الذي حدث في الواقع الميداني شيء آخر يختلف تماما عن الذي يُسرد في تنظيرات الحالمين والرومانسيين.

الذي تابع البطولة من الجانبين سيعرف الفارق الهائل بين الجانبين. المشجع في الميدان يدفع ثمن أخطاء التنظيم، يتعطل في المطار، يتعسر في دخول الملعب لتشجيع بلاده في المباراة النهائية وينتظر من الإعلام المؤسسي، وإعلام بعض الأفراد الذين يسمون في هذا الزمان "المؤثرين" أن يُنصف الحقيقة على الأقل. ما الذي يحدث؟ كل ما يمكن أن يستفز هذا المشجع الذي مر بكل الخسائر في المال والحال ليضيف له خسارةً جديدة في رصيد الثقة الذي يربطه بالإعلاميين في المؤسسات. لا يُستغرب أبدًا أن ترى الجانب الحقيقي الذي تعمد البعض أن يغفل عنه، والذي لم يتقص الحقيقة ليبحث عنها من لسان الأفراد، فستبقى أمامه الصورة الوردية الرومانسية التي يريد البعض أن يؤمن بها، وكاتب السطور من الذين يحبون أن يؤمنوا بأن كأس الخليج في العراق مرَّ بهذه الطريقة، بالمحبة، والترحيب وأن التنظيم كان منصفًا، وكان يمكنني أن أبقى بهذا الفهم حتى ظهرت الحقائق لاحقًا، تلك الحقائق من شهود الحدث والتي لا تدع مجالًا لكل حالمٍ أن يبقى في موقفه السابق.

لم تخل تدافعات كأس الخليج الإعلامية والإجرائية من التسييس، وهذه مُشكلة فكرية أخرى، ومشكلة كبيرة بحق. فهم حدث رياضي أصبح مرتبطا بكل السياقات السياسية الفائتة والحالية. فريقٌ يحاول جاهدًا أن يلملم ما يراه "فتنة بين الشعوب" ومجموعة كبيرة من المشجعين الذين يعانون من الحرقة، من جانبٍ أوَّل إساءة التعامل مع حقوقهم تحت حججٍ واهية، ومن جانبٍ ثانٍ تلك الاستماتة من قبل الإعلاميين الذين كان واجبهم حماية حقوق هذا المشجع وإدانة الذين قاموا بالتعدي عليها. إن لم يكن صوت الإعلام الفردي هو الأعلى في طرح الحقيقة لما علم كثيرون عن ذلك الذي يحدث، وبالطبع فإن مؤسسات إعلامية رصينة قد استطاعت أن تنقل للمتلقي ما يحدث بحيادية ومصداقية، لكنها لم تكن بقوة ماكينة الدعاية العاطفية التي كل هدفها اعتبار الأحداث الرياضية أحداثًا سياسية، وبالتالي تتعامل معها كما لو كانت في طاولة مفاوضات أو في مؤتمر سياسي! هذا للأسف أحد الأركان النقدية لمنظّري الوحدة الرومانسية بين الشعوب، وكأن الاختلاف في الرأي يعني العداوة بالضرورة، ونلاحظ تجلي ذلك في استحضار مواقف ماضية وقديمة! مواقف لا علاقة لها بالرياضة!

الذي يفعله البعض من تلطيفٍ مبالغٍ فيه في أخطاء حدثت في حق المشجعين العُمانيين وهم خارج بلادهم مستفز، نعم الجميع يحب العراق، والجميع يتمنى له الخير، ونعم هي رياضة وأخوَّة، هذا لا يعني ألا ننزعج من الأخطاء، ولا يعني أن نصمت عنها، ولا يعني أن نعطي الدنيَّة في موقفنا فقط؛ لأن مجموعة من الرومانسيين الذين كل دافعهم مسيَّس، يخلطون بين الرياضة والسياسة.

ما حدث للجماهير العمانية في العراق تم تجاهله بشكل متعمّد من قبل آلة الإعلام المؤسسي، فالإعلام التجاري اختار السلامة والحفاظ على مصالحه، وبينما استغل البعض هذا الحدث لبث استفزازه، جوبه ذلك بالصمت من إعلاميين تمنى المشجع العُماني العالق في المطارات أن ينطقوا ولو بكلمة أثناء ما يمر به من عوائق، وما يعاني منه، في وقته وفي لحظته وفي آنه.

علمنا متأخرًا عن حيثيات ما يحدث في كأس الخليج في العراق، والذي يلام قبل الأشخاص وتوجههم هو آلة الإعلام التي تختار السلامة لدرجة الانهزام، من حق المتلقي أن يُحترم وأن تُنقل له الحقيقة بحذافيرها، أما كل هؤلاء الذين كل همهم إعلاء نظرية "بلاش الزعل" فهم معضلة الحقيقة، التي لا تصل إلا متأخرة، ولا تُناقش ولا تُجادل إلا من قبل الأفراد، أما تلك المؤسسات التي كان يجب عليها أن تقوم بواجبها، فقد اختارت موقف الضعيف، وتتحمل بالتالي كل ذلك التقريع المستحق الذي يُكال عليها بسبب هذه الرومانسية الحالمة التي في غير محلها!