فقه الأولويات الاقتصادية الوطنية (1)

 

 

صالح بن أحمد البادي

نتناول في سلسلة من المقالات، فقه الأولويات الاقتصادية الوطنية، في ظل ما يمر به العالم من متغيرات وظروف اقتصادية، تؤثر علينا حتمًا، ويتطلب الأمر تدبر الإجراءات والقرارات الاقتصادية قبل القيام بها، وفي الحلقة الأولى نبدأ بفقه الفكر الاقتصادي والشراكة وثقافة البناء والعمران الذكي التنافسي العالمي المكين، ومبدأي القوي الأمين.

إنَّ الوطن يحتاج لمرتكزات تحقق طموحاته ومستقبله تحت ظل قيادتنا الرشيدة، والتوجيهات والأوامر السامية واضحة المعالم وموضِّحة للطريق المرسوم وموجِّهة للعمل بروح الإبداع والإنجاز والأهداف ومعايير الأداء، علاوة على أن رؤية "عُمان 2040" واضحة المعالم والأهداف. ونحن نتشارك مع الوطن لتحقيق تلك التوجيهات بشكل أعمق وأوضح من منظور فقه الفكر الاقتصادي ثم الاقتصاد ومستهدفاته، ثم بعدها فقه الأولويات المحققة لتلك المستهدفات وممارساتها الصحيحة الشاملة وليس الجزئية؛ فالحلول الجزئية تشغلك كثيرًا وتتسبب في تحقيق أداء محدود الأثر، فتنشغل بالأسباب أكثر من انشغالك بالأهداف، وتفسر المُفسَّر وتشرح ما قد يكون قد شرحه كثيرون قبلك، فتصبح تكرارًا وليس استثناءً! وفي ذات الوقت، لا نريد فقط انشغالًا بالأهداف؛ بل نريد تحقيق أهداف استثنائية في عالم تنافسي وسريع، ولذلك علينا أن نصبح كل صباح ونحن  نطارد المستقبل لتعبر تحدياته وتحصد جواهره وفرصه.

ولأن فلسفة صناعة فكر الاقتصاد جميلة ومنعشة، فالمقدمة توضح جزءًا من تلك الفلسفة التي ترتكز على أننا كل صباح نتشارك جميعًا في بناء الوطن، لكن الأهم أن نكون جميعًا في ذات السياق الفكري الذي يُبنى عليه النطاق التخطيطي والتنفيذي والتشغيلي وما حولهما؛ ففهم تلك الأهداف والإيمان بها فلسفة مهمة وضرورية لتحقيق وطن الاستثناء؛ أي أن تسليم موشرات للتنفيذ ليس كافياً ما لم يُؤمِن المنفِّذون بالأهداف بذات ورقي مستويات فهم المخططين وهم بالأصل شركاء.

المرتكزات التي سنذكرها بحلقات تتابعية ليست خيارًا؛ بل واجبًا تفرضه طموحات الوطن المستقبلية وأهدافه الاستراتيجية؛ إذ إن الوقوف فور وجود مشكلة تنفيذية لا يعنى أنك حققت هدفك؛ بل يعني أنك بالطريق لتحقيق ذلك، وبالتالي يجب أن تقفز وتمر عبر الصعاب لتحقيق أهدافك بفكرٍ منفتحٍ وتركيزٍ مطلقٍ وعملٍ دؤوبٍ وتنافسيةٍ عاليةٍ؛ وبصفتين هامتين هما: القوي الأمين.

أتحدثُ عن فقه الأولويات الاقتصادية الذي استعرته لغويًا، لنذكر مواضيع محددة يجب التحرك بشأنها خصوصًا عبر المُخطِّطين والمقرِّرِين والتنفيذيين في الوطن، بعين بصيرة وأهداف واضحة محددة، تستند ليس على فقه المُمَكِن، ولكن فقه صناعة ما نريد وتحقيق الطموح العالي بشغف وريادة. على أن نبدأ بقراءة الفرص قبل قراءة المخاطر، وأن نسعى لتحقيق الأهداف من مبدأ جلي أنه ليس هناك على وجه الأرض أمر بلا مخاطر، لكن أهدافك هي ما تسعى لتحقيقه وتحجم إثر المخاطر، وما لم نتقبل ذلك بروح مُحِبة واعين بصيرة وقلوب شغفها يقودها وتتقبل نجاحاتك وتتقبل مساحات الأخطاء. وما لم تتقبل بعضًا من الأخطاء، فسيظل البعض مثخنًا بالتفسير محدود البناء والتعمير، والوطن المبدع هو حاصل جمع كفاءاته المبدعة، ونسب الإبداع تنطوي على مخاطر معينة حقيقية وطبيعية.

المنطقة من حولنا تتقدم ونحن شركاء التقدم وأصحاب المكانة، فقد حققنا أرقامًا مميزة في أجزاء كثيرة من الأداء خلال العامين المنصرمين، لكننا أمام مستقبل تنافسيته عالية وطموحاته أعلى من النجوم، ومستهدفاته واضحة، تُقرأ بنصف عين مجردة. ويجب علينا بعقلٍ متدبرٍ أن نصيغ المستقبل ليس داخليًا فقط وليست أرقامًا تقارن بأرقام، وليست مؤشرات تقارن بمؤشرات، رغم أهمية ذلك؛ ولكنْ اقتصاد يقارن باقتصاد، ومراكز إقليمية وعالمية تقارن بمراكز مشابهة، وانتشار اقتصادي يقارن بانتشار اقتصادي إقليمي وعالمي، وتكتلات تصنع تكتلات إقليمية وعالمية وتحقق مكانة خارج الحدود الجغرافية اقتصاديًا وعلوٌ يقارن بعلوٍ؛ لأن مستقبل الشرق الأوسط ينتقل وبعمقه الاستراتيجي إلى الخليج العربي، وبتسارعٍ، ليشكل اتحادًا وتعاونًا يصيغ فرصًا أكبر للمنطقة وللعالم، ويضع دول هذا الخليج أمام سنوات سمان من التقدم والريادة والإبهار والتمكن؛ فالشركاء والعمق الاستراتيجي واضحان تمامًا ضمن مساعي وتوجهات قيادتنا الرشيدة.

الاقتصاد مهما صغر حجمًا فإنَّ فقه مضاعفة حجم الاقتصاد يقول إن كل ريال تنفقه يمكن أن تصنع منه أكثر من 20 إلى 30 ريالًا مضاعفًا مباشرًا في أول سنوات الاستثمار، ومضاعفاته أكبر كلما طالت مدد الاستثمار؛ فالحديث هنا عن أول خمس سنوات. وإذا كان كذلك فإن عنصر الموازنة الحكومية- مثلًا- كموازنة استثمارية فقط قيمة موازنتها 2 مليار ريال عماني؛ يمكن أن تحقق مضاعف 30- 40 مليار ريال عماني، بشكل مباشر في أول 5 سنوات، وذلك استنادًا على فقه مضاعفة الاستثمار والشراكات مع القطاع الخاص.

ولتحديد الفكر الاستثماري عمومًا، نطرح التساؤل: هل النمو الاقتصادي يعتمد على الاستثمار داخل الوطن فقط؟ وذلك تساؤل مُهم، والحقيقة أن الاستثمار داخل الوطن مهم جدًا، لكن التمركز الإقليمي والعالمي أهم وأشمل فائدة وأعمَّ خيرًا للوطن والمنطقة داخليًا وخارجيًا.

إذا سعينا لوضع فقه الأولويات الاقتصادية سهّل لنا الدخول لفقه النتائج الاستثنائية، لا نحتاج أن نصل العام 2030 لنكتشف بعض التحديات ونكرر فقه إيجاد حلول التحديات، ولا نحصر أنفسنا في أن فقه الوقت هو الحل؛ فالوقت يعالج التحديات، لكنه أيضا يصنع التحديات المكررة والكلف العالية، إن لم تكن القرارات مباشرة وجريئة، ويضاعف من تحديات الانتقال نحو العوائد الاستثنائية.

لدينا مخططون ولدينا أسس تخطيط عالمية، لكن بعض الأهداف يجب مضاعفتها ويراها السامع والقارئ والمطلع والمتابع وسنحصرها في المقالات المقبلة.

إننا نحتاج لرفع عدد السكان كمثال لبناء اقتصاد مضاعف، وهذا ليس خيارًا فقط؛ بل إنه إما النصر بتحقيق الهدف، أو السكون بانتظار الفعل لصناعة ردات الفعل. إننا نحتاج لمضاعفة عدد السكان بأسرع ما يمكن؛ فاقتصاد العالم 80% منه يقوم عبر اقتصاد المدن، وما لم نصنع مدنًا سيصعب علينا صناعة اقتصاد؛ وذلك ما سأتحدث عنه بالأمثلة في المقال المقبل.

وختامًا.. إنَّ فقه الأولويات الاقتصادية أضعه كتعريف دقيق وجديد لأولوياتنا؛ لأن الفقه ثقافة، ورغم ارتباط الكلمة بالجانب الديني أساسًا، لكن معناها اللغوي يشير إلى الطريق الذي يجب أن نصنعه في أسرع ما يمكن ونحققه، الأمس قبل اليوم، وفق فقه أولويات عميق نستمر في ريادته.