مؤيد الزعبي **
صحيحٌ أنه حتى الآن لم تُنجب الموسيقى العربية صوتًا مثل صوت أم كلثوم ولا صوتًا مثل صوت عبدالحليم، ولا ملحنين مثل محمد القصبجي ولا موسيقيين مثل محمد عبد الوهاب، وحتى الموسيقى العالمية لم تُنجب مثل بيتهوفن، ولم يأتِ كاتب عبقري مثل ويليام شكسبير، ولا حتى رسام مثل بابلو بيكاسو أو فان جوخ أو ليوناردو دا فينشي.. فهل تخيلت- صديقي القارئ- أن يتغلب الذكاء الاصطناعي على كل هؤلاء أو يستنسخ أسلوبهم ويظهر لنا عصر فنون الذكاء الاصطناعي، ونشاهد أعمالًا فنية مذهلة صممها أو ألفها روبوت أو نظام ذكاء اصطناعي؟!
لا تستغرب عزيزي القارئ إن سمعت صوت أم كلثوم تغني أغاني المهرجانات، وعبدالحليم يغني الراب، ولا تستغرب تحويل أغانيهم لإيقاعات وألحان مختلفة، ولا تستغرب إن شاهدت جزءًا ثانيًا من مسرحية "هاملت" لشكسبير، لكن تدور أحداثها على المريخ يتحول فيها الصراع من انتقام الأمير هاملت من عمه كلوديوس إلى صراع بين مخلوقات فضائية، ولا تتعجب إن شاهدت فيلمًا جديدًا يجمع أبطال مسرحية "مدرسة المشاغبين" وقد تم توليد شخصياتهم وتحركاتهم وحواراتهم بواسطة الحواسيب وأنظمة الذكاء الاصطناعي. أنا عن نفسي لا أستغرب كل هذا؛ بل على العكس فأنا أجدُ أنه بإمكاننا أن نجمع بين إسماعيل ياسين وتشارلي تشابلن في عمل سينمائي واحد، ورغم اختلاف الآراء في هذا الجانب، لكن أؤمن بأن التقنيات الحديثة- ورغم سلبياتها- إلا أنها بوابة لإبداعات لم نكن نتصورها، والمذهل في الأمر ليس قدرة هذه التقنيات على محاكاة أسلوب فنان فقط؛ بل ستكون قادرة على دمج أساليب ومدارس فنية مع بعضها البعض وتُخرج لنا مدارس فنية جديدة.
خلال الفترة الماضية أحتلت تقنيات مثل DALL-E 2 وStable Diffusion عناوين البحث في محركات الإنترنت، وراح الناس يتساءلون عن هذه التقنيات أو الأدوات وقدرتها الهائلة على تحويل النص إلى صورة، وكل ما عليك أن تدخل إلى المنصات الإلكترونية التي تقدم هذه الخدمات وتكتب شرحًا عن شكل الصورة التي تتخيلها، ويقوم النظام بتوليدها لك حتى لو كانت الصورة مجرد خيال خطر في بالك، أو حتى صورة كلاسيكية يعود تاريخها لمئات السنين، أو حتى صورة مستقبلية لشكل الكون والحياة عليه، فلك أن تتخيل أننا ما زلنا في البداية، وما هو قادم مرعب في هذا الجانب.
جميع من دخل مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية شاهد تلك الصور السحرية أو الأفاتارMagic Avatar ، والتي جذبت إعجاب المستخدمين بعد أن حوّلت صورهم لصور رمزية أو انيميشن غاية في الروعة، ورغم أن تطبيق مثل "Lensa" الذي يقدم هذه الخدمة برسوم مرتفعة نسبيًا، إلا أنه تم تحميله من قبل ملايين الناس وشاهدنا ملايين الصور الرمزية السحرية منتشرة هنا وهناك، وهذا أيضًا ما هو إلا بداية لطفرة كبيرة في مثل هذه التقنيات.
لو دخلت محركات البحث وبدأت بالبحث عن ميد جورنيMid journey سيظهر لك العديد من الصور المولدة عبر الذكاء الاصطناعي، فهذه المنصة قادرة على خلق الصور من خلال النصوص، وقد أثارت جدلًا واسعًا لقدرتها على إنتاج رسومات متقنة وتحاكي فنانين مشهورين، وقد لا تُفرق بين الرسومات المحاكية لأسلوب فان جوخ وبين الرسومات الحقيقية، وقد قام بعض الأشخاص بعرض بعض الصور التي يولِّدها ميد جورني على خبراء وأصحاب معارض عالمية للصور دون إخبارهم بمصدرها، وقد ابهرتهم النتائج وعلقوا بأن هذه الأعمال متقنة بشكل كبير وتليق بأن تكون لوحات فنية ذات قيمة! وهذا يخبرنا أننا أمام تقنية مخيفة قادرة على صناعة ما كان مستحيلًا على البشر وبسرعة خيالية؛ إذ لا يستغرق الأمر سوى بضع دقائق لتكون أمامك صورة من عصر النهضة ممزوجة بعصر الحداثة وبأسلوب فنانك الذي تحب.
الذكاء الاصطناعي دخل في عالم الموسيقى ولك أن تتخيل أن شركة OpenAI المطوِّرة لأبحاث الذكاء الاصطناعي، والتي أسهم في تأسيسها رجل أعمال التكنولوجيا إيلون ماسك، مع عدد من شركات التكنولوجيا قامت بإطلاق نظام تم تسميته "Jukebox جوكيبوكس" وأصبح قادرًا للمرة الأولى في التاريخ على توليد أغنيات كاملة بواسطة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة، وقد استخدم الباحثون 1.2 مليون أغنية لتدريبJukebox لتصبح المنصة رائدة في هذا المجال. وبخلاف "جوكيبوكس" فهناك الآلاف من المنصات التي توفر موسيقى حية أو موسيقى تعبيرية أو حتى موسيقى تصويرية تم توليدها بواسطة الحواسيب والأنظمة. وعلى جانب آخر هناك عشرات الفرق الموسيقية العالمية التي بدأت باستخدام روبوتات أو أذرع روبوتية في مجالات العزف، وبدأنا نشاهد روبوتات على المسرح تعزف أصعب الألحان، والأمر تعدى هذا كله لنجد روبوت يقود أوركسترا عالمية وبدأت تحظى هذه المحاولات بإعجاب الناس وسيصبح لها روادها وجمهورها.
أما في فنون السينما.. صحيح أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ما زالت بعيدة عن إنتاج فيلم سينمائي، ولكن بدأت تدخل هذه التقنيات بشكل ملفت في مجالات تحرير الفيديو والرسوم المتحركة وتحريك الشخصيات وخلقها، وقد بدأ الكثير من المخرجين إعطاء مساحة للذكاء الاصطناعي لخلق شخصيات خيالية، وهذا يشق الطريق لنرى محاولات أكبر في قادم الأيام خصوصًا وأن هناك محاولات كبيرة لخلق أنظمة تولد فيديوهات حسب الطلب وتحول النصوص لفيديوهات أو رسوم متحركة، وعندما نصل لهذه النقطة سوف أخبرك عزيزي القارئ بأن تستعد لشراء تذكرتك لمشاهدة الفيلم السينمائي المولد بالكامل عن طريق الذكاء الاصطناعي.
في النهاية.. سواءً اتفقنا على أن جميع هذه المحاولات هي فن من الفنون أم لا، وسواءً قبلنا الأمر أم رفضناه، وسواءً وجدنا أن هذه الأنظمة إيجابية أم سلبية، إلا أننا يجب أن نتفق على أمر واحد؛ وهو أن هذه الأنظمة يمكن لها أن تخلق لنا فنونًا مغايرة.. فنون جديدة بطقوس وأساليب جديدة، وتفتح أعيننا على مساحات أوسع، وهذا هو دور البشر الذي لا يتغير أن يُسخر الأدوات لخدمته وخدمة أفكاره وإبداعاته.
** صحفي ومنسق إعلامي في مجموعة الصين للإعلام