أطباء يحذرون من التداعيات الخطيرة للضغوط النفسية على الصحة الجسدية

الضغوط النفسية.. ماذا تعرف عن "القاتل الخفي"؟

◄ الأزمات والمشكلات العائلية والوظيفية تهدد البعض بأمراض الضغط والقلب والشرايين

◄ دراسة: الصحة النفسية الممتازة تجنّب الأشخاص مخاطر السكتات الدماغية

◄ الضغوط النفسية تؤثر على الصحة الجنسية وتصيب بأمراض الجهاز الهضمي

◄ البلوشي: الجينات والبيئة عاملان أساسيات يؤثران على الصحة النفسية للفرد

◄ الفليتي: مشاعر التوتر تتسلل إلينا عند عدم القدرة على مواجهة التحديات الحياتية

◄ النعماني: علاج الضغط النفسي قد يتطلب تدخلا دوائيا

◄ الهبري: التثقيف المجتمعي حول الصحة النفسية أمر ضروري ويجب معالجة الأسباب وليس الأعراض

 

الرؤية- سارة العبرية

يعاني الكثيرون يوميًا من ضغوط نفسية ناتجة عن ما ينتابهم من حالة قلق أو تفكير أو توجس وربما رهاب من مشكلة أو تحدٍ أو أزمة ما؛ الأمر الذي يُسبب لهم اعتلالات صحية تُؤثر على وظائف الجسم، وأخطرها أمراض ضغط الدم والقلب والشرايين، فيما ينصح الأطباء بضرورة تعزيز الصحة النفسية من خلال ممارسات عديدة، تتمثل في التأمل أو البحث عن الحلول للمشاكل بدلًا من التفكير فيها، علاوة على اللجوء إلى الأطباء النفسيين في حالة تضاعف المخاطر النفسية على الشخص.

وفي ظل ما يواجه البعض من تحديات الحياة تتزايد الضغوط النفسية، فبين مطالب الواقع والإمكانيات الشخصية يسقط كثيرون في براثن القلق والتوتر والضغوط والتي جميعها تتلخص في الخوف من المستقبل، ولا شك أن الصحة النفسية تمثل جزءًا مُهمًا من صحة الإنسان، ولا تقتصر فقط على الخلو من الأمراض النفسية والعقلية، لكن تشمل كذلك ضرورة التوافق بين العواطف والأفكار والسلوكيات على نحو متزن، وتمثل الصحة النفسية كذلك- بحسب العلوم الحديثة- أحد أبرز مؤشرات جودة الحياة.

 

ردات فعل طبيعية

ويقول الدكتور عزيز بن ناصر النعماني، أخصائي أول الأمراض النفسية والعصبية بمركز القمة للرعاية الطبية، إن الضغوط النفسية تؤثر بالسلب ليس على الصحة الجسدية فقط؛ بل على الصحة العقلية أيضًا، وأن ردود فعل الأفراد "السلوكيات" هي ردة فعل طبيعية للجسم والعقل اتجاه بعض الأحداث الضاغطة مثل الأعباء اليومية، موضحا أنه إذا استمر الضغط النفسي لفترة طويلة فإنَّ ذلك يُسبب العديد من الآثار السلبية على الجسد منها الجهاز العصبي الذي يؤثرعلى غدة "Hypothalamus" فتُسبب إفراز هرمونات التوتر مثل "Adrenaline" و"Cortisol".

د. عزيز النعماني.jpg
 

ويبيّن أن الضغط النفسي يؤدي إلى زيادة في بروتينات "Cytokines" التي تسبب التهاب "Inflammation" ويزيد من خطر الإصابة ببعض الأمراض مثل أمراض القلب والسكري وتصلب الشرايين، إضافة إلى أمراض الجهاز الهضمي مثل ارتجاع المريء وقرح المعدة ومتلازمة الأمعاء المتسربة وجفاف في الحلق وصعوبة في البلع وإسهال وإمساك، كما أن الضغوط تؤثر على الجهاز التناسلي وتسبب كثيرًا من المشاكل الجنسية مثل: التهاب البروستاتا وقلة الحيوانات المنوية وضعف في الانتصاب عند الرجال، كما إنه يصيب النساء باضطرابات في الدورة الشهرية.

ويضيف أن الضغوط لها تأثير على سلامة العمليات العقلية كصعوبة في التركيز واتخاذ القرارات والنسيان وسرعة الانفعال واضطرابات النوم والشهية والآلام المتفرقة في العضلات والظهر والميل للعزلة، وقد يتجه البعض لشرب الكحول والمخدرات لإخماد الآلام النفسية والجسدية.

ويذكر الدكتور هاني بن عباس البلوشي، مختص في التربية وعلم النفس والأستاذ بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية، أن العوامل التي تؤثر على الصحة النفسية تنقسم إلى عاملين أساسيين وهما عوامل بيولوجية جينية مرتبطة بالفرد، وعوامل بيئية تتمثل بالمؤثرات الخارجية التي يتعرض لها الإنسان كتجارب الطفولة والمدرسة والأصدقاء وبيئات العمل وظروف الحياة المحيطة، مؤكدا أن أي اختلال في هذه العوامل قد يؤثر على الصحة النفسية وينشأ عنها ما يسمى بالضغوطات النفسية.

ويشير إلى أنه وفقاً لمنظور "علم النفس"، فإن الظواهر النفسية يجب دراستها في سياق متكامل مع جميع مكونات الفرد البيولوجية والنفسية والاجتماعية، حيث إنه لا يمكن النظر إليها كمكون فردي منفصل، فالضغوطات النفسية على سبيل المثال تؤثر على الصحة الجسدية والعكس صحيح.

مشاعر متوترة

ويعلق الدكتور إدريس بن عيسى الفليتي، رئيس مركز "أنسنة" للاستشارات التربوية والتعليمية: "المشاعر المتوترة تحدث عادة عندما نشعر أننا لا نملك الموارد اللازمة لإدارة التحديات التي نواجهها، ويمكن أن يؤدي الضغط في العمل أو المدرسة أو المنزل أو المرض أو الأحداث الحياتية الصعبة أو المفاجئة إلى التوتر، كما أن الجينات الفردية والتربية والخبرة وصعوبات في الحياة الشخصية والعلاقات من أسباب الإصابة بالتوتر، كذلك التغييرات الكبيرة أو غير المتوقعة في الحياة مثل الانتقال إلى منزل أو إنجاب طفل أو البدء في رعاية شخص، وكذلك الصعوبات المالية كالديون أو الكفاح من أجل تحمل الضروريات اليومية والمشاكل الصحية للشخص أو لقريب منه، والحمل والأطفال ومشاكل السكن إضافة إلى فقدان شخص عزيز، كل ذلك أسباب تؤدي إلى الضغوط النفسية".

د. إدريس الفليتي.jpeg
 

ويشرح الفليتي أن الصحة النفسية والجسدية أمران مرتبطان؛ حيث يتصل الدماغ والقلب بشبكة من الأعصاب تسمى "السمبثاوي والباراسمبثاوي"؛ ويعمل الجهاز العصبي السيمبثاوي وكأنه دواسة الوقود، بينما يعمل الجهاز العصبي الباراسمبثاوي وكأنه دواسة الفرامل، وبالتالي يوجد بينهما تناغم لتحقيق التوازن في الجسم، لكن تؤثر الأمراض النفسية أو الأمراض الجسدية سلباً على هذا التناغم، ونتيجة لذلك فإن الأمراض الجسدية قد تسبب الأمراض النفسية والعكس صحيح.

ويتابع الفليتي أن الإنسان مُعرض للضغوطات النفسية بشكل أو بآخر، ولكن طرق التعامل مع تلك الضغوطات تختلف من شخص لآخر، مُقترِحًا 4 استراتيجيات يُمكن على المرء اتباعها وهي: "لست المسؤول عن مشكلات الآخرين، ليس من الممكن أن تكون أعمالك جميعها بدرجة ممتازة، لديك الوقت الكافي لتقوم بالأعمال المطلوبة منك حسب مصفوفة عاجل وغير عاجل ومهم وغير مهم، تذكر أن أيام الإجازة ملك لذاتك وليس للعمل".

معالجة الضغوط

ويرى الدكتور هاني البلوشي أن الصحة النفسية ترتبط بتحسين مجموعة من العوامل، منها عوامل داخلية يرتبط بعضها بالفرد نفسه، وعوامل خارجية ترتبط بالبيئة المحيطة به، موضحا: "على سبيل المثال من الطرق لتحسين الصحة النفسية المرتبطة بالفرد، الاهتمام بممارسة الرياضة، وتناول وجبات متوازنة ومنظمة، والحصول على قدر من الراحة والنوم الكافي، وممارسة الشعائر التعبدية بانتظام.

د. هاني البلوشي.jpg
 

ويذكر البلوشي أن من طرق تحسين الصحة النفسية المرتبطة بتحسين البيئة المحيطة: صنع توازن بين العمل ومهام الحياة الأخرى، والنظرة الإيجابية للأحداث من حولك، التحكم الجيد في الأمور المالية، والتجديد والتغيير المستمر في نمط الحياة، والتوافق وصنع علاقات اجتماعية ناجحة، وتقبل الفشل وتوقع فرص النجاح".

ويؤكد الدكتور عزيز النعماني، أن علاج الضغط النفسي قد يتطلب في بعض الحالات تدخلا دوائيا للأعراض المرافقة للضغوط أو لعلاج الاضطرابات الصحية المسببة للضغط الاكتئاب أو اضطرابات القلق أو الأمراض الجسمية الناتجة عنه، كما يتم علاجه أيضًا عن طريق العلاج المعرفي السلوكي، وفيه يتم تحديد أنماط التفكير السلبي لدى الفرد والعمل على تغييرها، لافتا إلى أن الأفكار التي تقتحم عقل الإنسان هي المحركة له ولدوافعه، فكلما كانت الأفكار إيجابية كلما كان سلوك الفرد إيجابىا ويحفز من دعمه النفسي، كذلك يمكن العلاج عن طريق ممارسة تمارين الاسترخاء بمراحله المختلفة التي تساعد المخ للشعور بالاسترخاء والهدوء من أجل إعطائه القدرة على حل المشكلات التى يواجهها الفرد، كما يتم تنمية مهارات الفرد من الناحية الاجتماعية عن طريق دمجه ومساعدته في الخروج من حالة العزلة والانسحاب.

وتلفت لارا بنت سعود الهبري، أخصائية في علم النفس العيادي بمركز الحارب الطبي بمسقط، إلى أن نمط الحياة له تأثير كبير على الصحة النفسية، سواء كان النظام الغذائي أو النشاط البدني أو عادات النوم، مؤكدة: "من الأفضل أن نتعلم ممارسة تقنيات الاسترخاء والتأمل، لأننا نعيش اليوم في بيئة صاخبة ونشهد المزيد من حالات الإرهاق، فهذه التقنيات ليست بكماليات، إنما هي ضرورية للحفاظ على الصحة النفسية، ومن الأشياء التي تساعد في الحفاظ على صحتنا النفسية، تعلم كيفية إدارة مشاعرنا والتعبير عنها، لأنَّ قمعها  قد يسبب العديد من المشاكل الصحية، وفي حال وجود أي مشكلة نفسية من الأفضل معالجة الأسباب وليس الأعراض فقط، حتى لو كان هذا الأمر يتطلب استشارة أخصائي".

وتوجه الهبري إلى تثقيف المجتمع حول الصحة النفسية وكيفية الاستشارة ووضع المشكلة في سياقها في الزمان والمكان ومنحها الحجم المناسب؛ حيث تتطلب المشاكل الشجاعة والصبر والسلوك الإيجابي وبعض المهارات التي يمكن تعلمها، وعلى الإنسان أن يجتهد في الوصول إلى أهدافه ويتحكم في ما تحت سيطرته ويقبل ما هو خارج عن إرادته، كما يمكن تحقيق ذلك على المؤسسات المنوطة بعمل محاضرات وورش عمل وتدريبات في التعامل مع الضغوط النفسية وكيفية الوقاية منها لجميع شرائح المجتمع ولكل الفئات العمرية.

لارا الهبري.jpeg
 

وتنصح الهبري من يتعرضون للضغوط النفسية باتباع الأمور التالية والتي ثبت نجاحها وهي: "التواصل المستمر مع الآخرين، تعلم مهارات جديدة، تقديم المساعدة والعطاء للآخرين، الاهتمام بالحاضر بدلًا من المستقبل".

دراسات نفسية

وأُجريت دراسة أعدها باحثون بجامعة إلينوي الأمريكية، ونشرتها دورية "ذا جورنال أوف ريليجن آند هيلث"، وذكرت أن الأشخاص المتدينين لديهم قدرة أكبر من غيرهم على مواجهة الضغوط النفسية وأزمات الحياة، وأنهم غالبًا ما يستخدمون طرقًا إيجابيةً في التفكير حينما يتعرضون للأزمات، وأن الإيجابية التي يتعاملون بها في المواقف الصعبة تشبه إستراتيجيةً يستخدمها علماء النفس تسمى "إعادة التقييم المعرفي"، وتعني أن يعيد الفرد تقييمه المعرفي للموقف بغية استخلاص الانفعال المحتمل حدوثه من ذلك الموقف وخفض أثره.

وأوضحت الدراسة أن "المتدينين يميلون إلى الثقة بأنفسهم في التعامل مع ضغوط الحياة وأزماتها، ولديهم قدرة أكبر على التعامل معها بمرونة والتأقلم معها، وهو ما يخفض معدلات القلق والاكتئاب لديهم، ويجعل ذلك معدلات الرفاهية العاطفية لديهم أكبر من غيرهم، وأن المتدينين يستخدمون الطرق ذاتها التي يستخدمها علماء النفس للحماية من الضيق والاكتئاب".

وأظهرت الدراسات السريرية بعلم النفس أن الصحة النفسية المُمتازة يمكن أن تقلل من مخاطر نوبات القلب والسكتات الدماغية، وربطت بعض الدراسات بين الاكتئاب والعديد من الأمراض المزمنة مثل: السرطان والربو وأمراض القلب والأوعية الدموية والمفاصل وداء السكري، وذلك بسبب اضطراب في فرز هرمونات "الأدرينالين والكورتيزونات"، ولوحظ أن عدد الوفيات بسبب السرطان وأمراض القلب أعلى عند الأشخاص المصابين بالاكتئاب، وأن حوالي 50%- 80% من الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية يعانون من مشاكل واضطرابات في النوم، فى حين أن 10% من الناس الطبيعيين يعانون من اضطرابات ومشاكل النوم، كما أن الأشخاص الذين يُعانون من الضغوط هم أكثر عُرضة للتدخين بالمقارنة مع الأشخاص الذين لا يُعانون من أي ضغوط.

استراتيجيات نفسية

وكشفت الدراسة أن الأشخاص المتدينين يلجؤون إلى استخدام أدوات يعتمد عليها علماء النفس للوقاية من القلق والاكتئاب عند مواجهة الشدائد؛ لتجنُّب تأثير المشاعر المؤلمة المؤثرة على مدى رفاهيتهم وجودة الحياة التي يعيشونها، وأن التحلي بالإيمان والثقة بالنفس يحدان من التداعيات السيئة.

ويوضح الباحثون أن المتدينين يستخدمون استراتيجيات تساعدهم في التكيف مع ما يواجهونه من أزمات؛ إذ تُعد الكفاءة الذاتية من العوامل المهمة التي تؤدي إلى خفض شعور الفرد بالتوتر والقلق، ولديهم قدرة أكثر فاعليةً في مواجهة تحديات الحياة، كما يتمتعون بقدرة أكبر فيما يتعلق بـ"إعادة التقييم الإيجابي"، وهي استراتيجية تكيفية تنظيمية للعاطفة تحافظ على الاستقرار العاطفي في أثناء ظروف الحياة الصعبة أو المجهدة، وتوفر الحماية من أعراض الضيق المرتبطة عادةً بالاضطرابات العاطفية، كالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.

تعليق عبر الفيس بوك