جبروت ثقافة الأسئلة في شمس 2023

 

د. مجدي العفيفي

 

(1)

ثقافة الأسئلة تطغى، ولا بُد أن تطغى، في زمن يتسم بأنَّ متغيراته أكثر من ثوابته، وإجاباته هي التي تبحث عن أسئلة، ولا أزال أتساءل، رغم أن النفس تمارس عملية الفرز، وهي عملية شاقة لها رحيقها وبريقها، وعبيرها وروحانيتها، ومع ذلك تئن كثيرا، لأنها لا تفكر بمعزل عما يدور حولها من مشاهد وشواهد.

لماذا لا يعقل هؤلاء الذين يمثلون الظاهرة الإنسانية العالمية، التي تبيد أية أمة وهي ظاهرة «الفرعونية والهامانية والقارونية» بأبعادها الثلاثة: الفرعونية نسبة إلى السلطة أية سلطة، والهامانية نسبة إلى فقهاء السلطان، والقارونية وهي منظومة رجال المال والاقتصاد والأعمال، حتى إن ممثلي هذه الظاهرة ينتشرون دائما في مشارق الأرض ومغاربها؟.

لماذا لا يزال بيننا «أبو جهل» و«أبو لهب» وغيرهم ممن يتزعمون العشائر والقبائل العصرية، في العالم أجمع، ولا يبالون بالقنابل المسيلة لكبرياء النفوس الأبية؟ وهذه الرموز الجاهلية، التي تتحدث العربية، صارت تتقن الإنجليزية والأمريكية والأوروبية والروسية وكل لغات أهل الأرض ولهجاتها قاطبة؟

لماذا ينبعث فينا خلفاء القصور العصرية، وما يجري في دهاليزها وأقبيتها من فتن وصراعات وقتل وتقتيل وسفك دماء ومحارم، ومنها تتكاثر فينا عبدة الأوثان، ويتعالى خدام الأصنام في كل المسارات؟

(2)

وإن تعجب فعجب، لماذا لا يزال صوت القبور يحكمنا وصمتها يطنُّ في سمع وبصر الأحياء، مع إن الصمت ليس سياسة؟ ومن المفارقات أنَّ لدينا شجاعة هائلة أمام القبور، لكن لدينا خوف هائل أمام القصور!

وأتساءل وسأظل دائمًا وأبدًا: حتى متى ستظل تحكمنا القبور؟ وتظل تَنهشنا الجثثْ؟  وإلى متى سيطن في آذاننا وقر الجيفْ ؟

وإلام تلك الرائحة .. ستظل تزحف في شرايين المصير؟!

لماذا لايزال بيننا «الحجًّاج» المتحول والمتلون، الذي يظن أيضا أنه يرى روؤسنا قد أينعت وحاف قطافها، ويرتدي العمامة حتى نعرفه لأنه «ابن جلا وطلاع الثنايا»؟ وتراه في البيوت والشوارع السياسة، وبيوت الحكم البيضاء والحضراء والحمراء والسوداء، في قارات العالم المنكوب بقيادات تبحث عن زعامات بأي ثمن، وكثير منهم لا يدرك أن «الزعامة تختلف عن الرئاسة، ففي حين أنَّ الرئاسة فرض قانون، فإن الزعامة حرية اختيار، يفرضه المثال والتجربة، كما أن الزعامة لا تتحقق بادعاء طرف لنفسه، وإنما تتحقق بالقبول الطوعي له من أطراف أخرى، وأن إستراتيجية أي وطن لا تكفيها أهواء الزعماء والحكام، وإنما تفرضها ثوابت الجغرافيا أولا، ثم تحركها دواعي التاريخ ثانيًا» طبقًا لتنظيرات «محمد حسنين هيكل». 

 (3)

هل يطمسنا «الطوفان»؟ هل يلتقمنا «الحوت»؟ هل تأكلنا «النيران» فلا تكُ بردًا ولا سلامًا؟ هل يمسنا «شيطان» الذات ونرجسيتها بنصب وعذاب، فنهرب من جَلدنا في جِلدنا؟ هل سنظل نحمل «صخرة سيزيف» إلى أعلى الجبل، لنسقط ونصعد ثم نسقط، ثم نصعد لنهوي من جديد، ليظل يتمتع بمشهدنا، هؤلاء الذين يثملون على دماء مصنفاتنا البغيضة وأشلاء تمذهبنا الساذج؟

مادامت التصنيفات المذهبية الضيقة تضرب بالمجتمع ذات اليمين وذات الشمال، وكلبها باسط ذراعيه بالمرصاد لكل خطوة تسعى إلى أن يعتدل الميزان، فلن نفلح إذن أبدا، ولن ينصلج حالنا الذي لا يسر حبيبا ولا يربك عدوا، وسنظل في حالة من التوهان تحول بيننا وبين ضبط البوصلة في الاتجاه الصحيح!

لا بُد أن نتجاوز هذه العقبة البغيضة، حتى نطفىء هذا الكابوس الذي يطبق على أنفاس المجتمع، ويجثم على صدره فتحول بينه وبين التنفس الطبيعي، وسيظل شهيقه بلا زفير، وزفيره بلا شهيق، هذا ليبرالي، إسلامي، متأسلم،  إخواني، سلفي، جهادي، تكفيري، متزمت، متطرف، إرهابي،لا ديني، شيوعي، يساري، وجودي، وسطي، برجماتي، متطرف، متشدد، أصولي، تراثي، مودرن، و.. و.. مسميات شتى، من مفردات هذه العائلة الممسوخة ذات التصنيفات المسمومة.

لقد صارت التصنيفات المذهبية الضيقة من بقايا ثقافة التخلف، وباتت في خزانة السقوط المجتمعي حتى هامشية اللامعقول، إلا أن المراقب لحراك المجتمع المستمر، يلحظ بجلاء أنها لا تزال تعمل، ويعاد إنتاجها، بشكل أو بآخر، الأمر الذي يسبب الحيرة لكاتب هذه الأطروحات عن استقطار هذه الظاهرة الاجتماعية والمجتمعية، وأشرت إليها كثيرا، وسأظل، في سياقات متباينة، باعتبارها ركيزة أساسية وتأسيسة في منظومتنا الفكرية، فهل لابد أن أصنفك وتصنفني في خانة بعينها، حتى تراني وأراك، وتقرأني وأقرأك، وتفهمني وأفهمك؟ إن ضحايا هذه اللعبة في مجتمعنا كثر، وما أبشع هذا ؟ أما آن الأوان لكي يعتدل الميزان.

(4)

ويل للمطففين.. في السياسة في الثقافة في الاقتصاد، في الإعلام، في المجتمع، في الناس في الحياة. ويل لأمة ترجِّح اللامعقول على المعقول، وتبغض الحق ليعجز عن الوصول للحقيقة!

لماذا هذا التهور والتدهور في توصيف خلق الله ووصمهم هكذا ؟ لماذا كل هذا الطمع والجشع والبشع في تشويه الآخر، مع أنه «يوجد في العالم ما يكفي كل إنسان، ولكن لايوجد في العالم ما يكفي جشع إنسان واحد» على حد تعبير «غاندي»؟

لماذا نصر على أن نغرق أنفسنا في مستنقع التصنيف، الذي يتمثل ريح الصحراء وهي تجفف كل شيء، ليطمسنا «الطوفان»؟ وأنا ومن بعدي الطوفان؟!

لماذا نقنط من أنفسنا ونغاضبها ليبتلعنا «الحوت» ونتوه في ظلماته، فاختفت تحالفات التضامن والتناغم، لتحل محلها تحالفات الأنانية والمذهبية، التي تسعى لسعادة الأنا عبر معاناة الجميع.

لماذا نتوارى خلف ستائر الذاتية المفرطة، المؤدية إلى المذهبية الغبية، وهي سراب الضعفاء «دمار العالم ولاخدش في إصبعي»؟

لماذا نلقي بأنفسنا في حفر الافتتان، ونجحم ذاتنا الجمعية في نار الأنانية، التي لايسع قفصها إلا لصاحبه؟ بل نستبسل في أن نحرق أصابعنا بإطفاء شموع غيرنا؟

ما بالنا، وكأننا نأخذ بقانون (ميكافيللي): «إما أن نعطف عليهم، أونقضي عليهم»وماذا بعد السقوط في جب هذه الفتنة، والأنانية وتوابعها «تولد الحسد، والحسد يولد البغضاء، والبغضاء تولد الاختلاف، والاختلاف يولد الفرقة، والفرقة تولد الضعف، والضعف يولد الذل، والذل يولد زوال الدولة، وزوال النعمة، وهلاك الأمة» بتعبير (بسمارك).

(5)

أهو التوهان في عصر الاستعارة؟

نعم .. وأكثر.. بل وأكبر...!.