فاطمة اليمانية
"لا فائدة من إغلاق النافذة، والمشهد ما زال يدور في ذهنك"!
***
ثمَّة أسئلة لا إجابة لها، وثمّة أسئلة من غير اللائق طرحها، أو مجرد التفكير في طرحها! وثمّة أسئلة مفخخة تستطيع من خلالها اكتشاف الآخر!
وبخصوص الآخر، فإنّه -قد يكون مثله تمامًا- لا يمتلك إجابة شافية للردّ عليه!
وكانت أصعب الأسئلة هي تلك التي تمنّى لو سمعها من أفواه الموتى الذين فارقوه وهم على قيد الحياة!
وعندما ترنّم بقصيدة نزار قبّاني (لماذا تخلّيت عنّي...)، تذكّر خطيبته نرجس التي تركته قبل الزفاف بشهرين، في أشهر قصّة انفصال في الحارة، حيث بكى كل من عرف أنّ قصّة الحب انتهت على يد رجلٍ ثري تكفّل بكافّة نفقات الزفاف، وما بعد الزفاف، وتمادى ليعدها بالسفر كل شهر إلى بلد!
لكنّه تذكّر المرض المزمن الذي يُعاني منه، ويمنعه من السفر؛ فقال لها:
- ستسافرين كلّ فترة إلى بلد!
ومن شدّة لهفتها على الزفاف الذي سيُغير رِتْمَ حياتها، ويخرجها من أجواء الطبخ والنفخ؛ لم تناقشه كثيرا في المدة الزمنية لكلمة (فترة)، لكنّها عجّلت في الانفصال عن مسعود، وحمدت الله كثيرًا على أنّ الزواج به لم يحدث بعد!
وجلست مع عائلتها تفكر مليًّا في اختراع أسباب مُقنعة لإنهاء الخطبة، وقالت له بأنّها مصابة بمرض خطير يمنعها من الزواج! وخلال يومين طرق عمّها باب مسعود؛ وسلّمه مهره وشبكته، وخاتم الخطوبة الذي نقش عليه الحرف الأول من اسمه، واسمها! وعبارة إلى الأبد!
فظلّ واجمًا شهرًا كاملًا مصدومًا مما حدث معه! وكيف ينتهي كلّ شيء بطريقة فجّة بحجّة المرض! وبأنّها ستُقيم في مستشفى مجهول في منطقة مجهولة! وتقارع الموت! لتدفن في بقعة مجهولة!
فقالت له أمّه حاسمةً الأمر:
- احفظ ماء وجهك!
لكنّه كتب رسالة عتابٍ لها، وأرسلها؛ واكتشف أنّها حظرت رقمه وهي تحتضر!! وبعد سنوات استخرج رقمًا آخر، وتّذكّر الرسالة المركونة في قائمة الملاحظات؛ وأرسل لها على رقمها القديم الذي يجهل إنْ كانت تحتفظُ به، أو تخلّصت منه؛ لتستقرّ الرسالة في هاتفها:
- لماذا تخلّيت عني؟
إذا كنت تعلم أنّي؟
أحبّك أكثر منّي؟
لماذا؟
وبالفعل استلمت الرسالة، التي ختمها بحرفيهما؛ فقالت له:
- مسعود!
- هل دفنتِ مع هاتفك؟ والشبكة متاحة؟!
وتأكّد بعد ذلك من جميع الشائعات التي وصلت إليه عن غدرها، وزواجها من رجل ثري، وبأنّها تقيم في منزل فخم، وأنجبت خمسة أبناء، ولم يتوقف لديها الزمن، كما حدث معه!
فأرسل لها مرّة أخرى:
- لماذا؟
- لأنّك فقير! ارتحت الآن؟!
قرأ ردّها مرّة، ومرّتين، وثلاث مرّات! وتبخرّت جميع مشاعره تجاهها، وتلاشت!
لأنّ بعض المشاعر تحتاج إلى صفعة ليفيق العاشق من عشقه، وإلى تصريح سافر تمنّى لو تصدّر مشهد انفصالهما بعيدًا عن اختلاق قصص غبيّة غير مُقنعة!
ومن حقّها أنْ تحيا حياةً مرفّهة عوضًا عن حياة الفقر التي كانت ستقارعها مع عامل بسيط يعيش مع والدته في بيت قديم ورثه عن والده، عن جدّه الذي قاتل الجيران في معركة شهيرة لا يعرف صدقها من كذبها؛ حتّى استولى على تلّ مُطّلٍ على الحارة، لا يغري أحدًا بشرائه، أو استثماره، ولم يلفت انتباه مهندس الطرق؛ ليرسم على الخارطة شارعًا يقتطع التلّ؛ فيحصل على تعويض مجزٍ من الحكومة يغير مجرى حياته، كما حدث مع أبناء الجيران في الحارة القديمة!
وأفاق من هواجسه على رسالة منها:
- كم ولدًا لديك؟!
لم يرد عليها، فلن تضحك إنْ قال لها بأنّ حماره صابر تزوّج، وأنجب حمارين صغيرين! كما كان يحدث معها سابقًا؟
فهي الآن ثرية؟ والأثرياء يضحكون على أشياء أرقى، تلائم وضعهم المادي!
بينما هو البسيط تضحكه زحلقة أحدهم بقشرة موز حتى يرتطم في الباب، أو يقع على رأسه!
أو رفسة حماره للعامل الذي لا يُجيد التعامل مع الحمير! ويخبر والدته بالتفصيل الممل عن طريقة إمساك العامل بخطام الحمار، وردّة فعل الحمار!
ليغرقا الغرفة ضحكًا! على حمارهما، ونفسيهما! وخيبتهما المستمرة! حين فشل في زواجه، وفشلت في تزويجه! بعد أنْ نشرَت في الحارة بأنّ ابنها لم يحبّ أبدًا ولا واحدة كحبّه لنرجس، ولن يحبّ أحدًا بعدها!
ظنًّا منها بأنّ هذا الكلام سيستثير عاطفة الجيران تجاه ابنها، وسيدعون على نرجس بانتقام الله، وعدم التوفيق!
بينما أغرقت هدايا نرجس الجيران؛ وأخذوا يدعون لها بالتوفيق، والذرية الصالحة، والرزق الوافر!
ورفضوا تزويج ابنها مسعود، الذي انشغل بنفسه، وعمله، وعزلته، واستمتع بوضعه الجديد متناسيا فكرة الزواج من أساسها!
وتعايش مع نظامه الثابت الذي لم يتزعزع، الذي يبدأ من صلاة الفجر، حتى صلاة العصر؛ ليقضي بقية يومه مع أمّه، والعامل، والحمار الذي لم يفهم أحد سر الاحتفاظ به!
وسأل والدته يومًا وهو في قمّة هدوئه:
- لماذا نحتفظُ بالحمار يا أمّي؟
- ألا يكفيك الطعام يا مسعود؟!
فأدرك أنّ أمّه تعتقد بأنّ وجود الحمار يُهدد أمنه الغذائي!
لأنّها عاتبته منذ يومين على طلبه منها عدم إطعامه خبزًا! حيث يكفيه ما يلتقط من حشائش الأرض!
وطلبه هذا مبني على نصيحة سمعها من أحد المزارعين، إذ قال له بأنّ الحمير تتأذّى من كثرة تناول الشعير والقمح. بينما اعتقدت الأمّ أنّ اقتسام أرغفة الخبز مع الحمار يزعج معدة ابنها! وقالت له تطمئنه:
- سنترك لك خمسة أرغفة! وللحمار ثلاثة!
فخشي أنْ يرتفع ضغطه بسبب استنتاجها؛ وفرّ خارج المنزل يتأمّل السماء؛ وعندما نهق الحمار ركب سيارته هاربا من نهيقه! لأنّ الجدل الغريب الذي دار حول طعامه وطعام الحمار كاد أنْ يفتك به! وبعد أن ابتعد عن المنزل أرسل لأمّه يسألها:
- لماذا أنا والحمار في نفس الرتبة لديكِ؟
فما كان منها إلّا أن خرجت والتقطت صورة لها وهي مبتسمة ورافعة أصبعي النصر والشهادة مع الحمار!
هذه الصورة الثنائية؛ ذكّرته بصديقه المقرّب عامر الذي أدخله في جمعية بسهم قيمته مائة ريال لمدّة خمس سنوات؛ ووعده بأن يستلم المبلغ كاملًا في السنة الثالثة؛ حتّى يستفيد من المبلغ في أيّ مشروع مُقبل!
فانتهت السنوات الخمس، وجفّت دماء مسعود من سؤال عامر عن موعد استلام مبلغ الجمعية؛ فقال له بأنّ صاحب الجمعية -قبّحه الله- سرقها، وغادر البلاد!
ثم حظر رقم مسعود؛ كما فعلت نرجس معه؛ لكنّه قرّر أن يرسل له من رقمه الجديد مستفسرًا:
- لماذا سرقتني؟
فرّد عليه عامر:
- إذا أرسلت مرّة أخرى تتّهمني فيها بالسرقة بدون دليل؛ سأتّخذ الإجراء القانوني المناسب!
حدّق في شاشة هاتفه، وحذف الرسالة، ورقم عامر؛ ثم أخرج الشريحة الجديدة وألقى بها؛ وتمنّى لو ظل على جهله القديم، نرجس ميّتة، وعامر ضحية سرقة مؤسس الجمعية المجهول الذي اختلس أموال الجمعية؛ وفرّ هاربًا خارج البلد!