حاتم الطائي
◄ نستقبل 2023 بتطلعات إيجابية للمستقبل رغم التحديات
◄ اقتصادنا الوطني يواصل النمو وتجاوز التحديات وعلى رأسها الدين العام
◄ العالم يمر بمخاض عسير مع تصاعد الصراعات والحروب
◄ أوروبا تتجه نحو "كساد كبير" وأزمة طاقة طاحنة وخضوع لأمريكا
◄ 6 دول عربية ما زالت تئن تحت ويلات الصراع.. والحل في بناء الدولة الوطنية القوية
◄ دول الخليج تقود النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط
◄ الصين قادرة على استعادة النمو القوي بعد التعافي من تبعات "كورونا"
◄ النفط سيظل في "مد وجزر" مع ترقب النتائج الاقتصادية
التحلي بالأمل والشعور بالتفاؤل والنظر إلى الغدِ بنفس راضيةٍ مُطمئنةٍ، صفاتٌ جميلةٌ ما الذي يمنع أن نتحلى بها جميعًا، وأن نصنع الأمل لأنفسنا والمُحيطين بنا والمجتمع، فصناعة الأمل فنٌ راقٍ يسمو بالنفس البشرية ويزيل عنها المشاعر السلبية التي تضر بالقلب والعقل، فانبثاق الأمل من أعماق الروح ينثر السعادة والبهجة في نفوس الناس، ومحو الذكريات الأليمة والسلبية يُنعش القلب ويمنح المرء الطاقة اللازمة لمواصلة العمل والعطاء في هذه الحياة المُستمرة والمتجددة كل يوم..
ومع استقبالنا لأولى نسمات العام الجديد 2023، يتعين علينا أن نفتح عقولنا وقلوبنا نحو المُستقبل المُشرق بإذن الله، كما تتفتح الأزهار كل صباح، لتنشر عبيرها في الكون، فيسعد كل من يشتم رائحتها الزكية، وتهنأ كل نفسٍ بما قُسِّم لها من أقدار وأرزاق، وهذه نقطة بالغة الأهمية، فالإيمان بالقدر من موجبات نزول الرحمات، كما إنَّ الرضا والقناعة والزُهد من علامات ذلك الإيمان، الذي بدونه نشقى ونُصاب بالإحباط، وتمرض قلوبنا، وتشيخ أبداننا قبل الأوان.
نستقبل العام الجديد وعُمان تمضي قُدمًا نحو مُستقبلها المزدهر تحت القيادة الحكيمة المُحنّكة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- الذي يسير بسفينة الواطن رافعًا أشرعة الهمّة والعمل الجاد الدؤوب، كي نبلغ مُرادنا ونُحقق أهدافنا، كي تكون عُمان في مصاف الدول المتقدمة، ويتعزز اقتصادنا، ويواصل نموه، بما يعود بالنفع والخير والفائدة على الوطن والمواطن، وهو ما نلمسه جميعًا الآن في صورة مشاريع خدمية وتنموية تسهم في تحسين معيشة المواطن، وتنمية الاقتصاد وزيادة الإيرادات.
وكما طالعنا جميعًا ما تؤكده المؤشرات الاقتصادية، فإن أداء اقتصادنا الوطني في عام 2022 كان لافتًا وقد عكس نتائج السياسات المالية والاقتصادية الرشيدة والناجعة التي انتهجتها حكومة صاحب الجلالة، وطرحت ثمارها اليانعة في صورة قرارات اقتصادية تصب في مصلحة المواطن والتخفيف من تأثيرات وتداعيات الأزمات العالمية، وتدعم جهود التنويع الاقتصادي وجذب الاستثمارات. وقد أظهرت الإحصاءات أن الميزانية العامة للدولة في 2022 حققت نتائج إيجابية للغاية، تمثلت في تحقيق فائض مالي تجاوز 1.2 مليار ريال عُماني، وهو رقم مُرشح للزيادة مع احتساب أداء الشهور الأخيرة من عام 2022، وذلك بفضل صعود أسعار النفط، وإغلاقها على ارتفاع في نهاية العام المنقضي؛ الأمر الذي ساعد في زيادة الإيرادات وعزز من خطط الإنفاق. ومثل هذه التطورات الإيجابية ساهمت كذلك في تحسين التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان، حيث قررت مؤسسات التصنيف العالمية تعديل تصنيف السلطنة ورفعه لمستويات أعلى مع نظرة مستقبلية إيجابية ومستقرة تجاه معدلات نمو اقتصادنا الوطني، وقدرتنا على الوفاء بالدين العام، وهو الأمر الذي يجب أن ننتبه إليه دائمًا، فرغم ما تحقق من مؤشرات اقتصادية إيجابية تدعونا للتفاؤل، يجب كذلك أن نتحلى بقدر من الواقعية في التعاطي مع مختلف التحديات، حتى لا يكون هذا التفاؤل مبنياً على أسس مغلوطة.
ثمة تفاؤل آخر نأمل أن يتحلى به أفراد المجتمع، وهو أنه رغم التحديات الاجتماعية التي تحيط بنا ومشكلات الشباب والمراهقين وغيرها، إلّا أنها تظل حالة طبيعية، تمر بها المجتمعات، خاصة في ظل العولمة وما تفرضه علينا من متغيرات، لكن تظل طريقة تعاطينا معها هي المحك الرئيس، الذي يجب أن ننتبه إليه دومًا، ونفطُن إلى آليات ووسائل التعامل معه، مع إدراك حقيقة أن شباب اليوم لن يكون مثل الأمس، وجيل الأبناء- وعلى مدى الدهر- في صراعٍ مُستمر مع جيل الآباء والأجداد، وهذه هي صيرورة الحياة وسنة الله في خلقه. ومن هنا وجب على أولياء الأمور وقادة الرأي والفكر في المجتمع، أن يرسموا المسارات الثقافية والأخلاقية التي تتماشى مع قيمنا وعاداتنا دون إغفال لمتغيرات العصر وسرعته، وأن يضعوا المنهاج التربوي الذي من خلاله ينشأ الأبناء على القيم الرفيعة والأخلاق السامية، وعلى قيم العمل والإنتاجية، والنهل من العلوم المختلفة والاستفادة مما توفره لنا التكنولوجيا من فرص للنمو والازدهار والتقدم.
وعلى جانب آخر، إنَّنَا عندما نتحدث عن التفاؤل نُشير بوضوح إلى ما يعج به العالم من أحداث، لكنها لا يجب أن تُثنينا عن التشبث بأهداب الأمل، والتمسك بتلابيب التفاؤل، فرغم الحروب والصراعات والمشاحنات حول العالم، ورغم الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعصف بالدول، ورغم محاولات فرض الأفكار الغريبة والشاذة، إلّا أنَّ الأمل في تحسن الأحوال، وفي أن تضع الحروب أوزارها، وفي عودة الحق إلى أصحابه، وفي أن يسود العالم السلام والأمان والوئام، سيظل قائمًا مهما تكالبت الظروف وتعاظمت التحديات، فبالأمل نحيا ونُواصل السير نحو الأهداف، وبالأمل نسمو بأرواحنا فوق كل سلبيات الحياة.
ولا شك أنَّ العالم يمر بمرحلة مخاض عسير بعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة والحروب العبثية المُدمّرة؛ فالحرب الروسية من المتوقع استمرارها، في ظل استفادة الكثيرين من تبعاتها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقف من بعيد تُشاهد أكبر عملية استنزاف وإضعاف عسكري واقتصادي وسياسي للروس، علاوة على ما تحققه من منافع اقتصادية جراء بيع الطاقة الأمريكية (النفط والغاز) إلى الدول الأوروبية بأسعار مضاعفة، والأهم من ذلك كله تقليم أظافر الاتحاد الأوروبي وإبقائه ضعيفًا تحت الهيمنة الأمريكية لا يستطيع الفكاك من عصمتها!
أما أوروبا، وفي ظل ما تئن منه من أزمات، فهي مقبلة على ركود اقتصادي سيتسبب لا محالة في كساد عظيم، ربما يكون أعنف من ذلك الذي شهدته في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، تزامنًا مع تفاقم أزمة الطاقة بعد انقطاع الغاز والنفط الروسيين، وارتفاع أسعار ما تحصل عليه من طاقة، إلى جانب الدعم الذي تقدمه لأوكرانيا في مواجهة روسيا، والذي نتوقع أن يتوقف مع ضعف قدرة أوروبا على مواصلة تقديم هذا الدعم في المدى المنظور.
أزمات أخرى تعصف ببريطانيا، التي تتكبد الآن ثمن أخطائها الفادحة، وفي المُقدمة خروجها من الاتحاد الأوروبي؛ حيث ما زالت تدور في فُلك أزمة طاحنة منذ "البريكست"، وما تلى ذلك من تقلبات سياسية وتغييرات في رؤساء الحكومات المتعاقبة على "10 داونينج ستريت"، وغول التضخم وشبح الكساد الذي يلوح في الأفق، لينطبق عليها فعليًا وعمليًا وصف "رجل أوروبا المريض". ومثل هذه الأزمات ستستمر لسنوات قادمة، لأنها أزمة قيادة وليست أزمة سياسات، وتجلى ذلك بوضوح بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية.
أما هُنا في عالمنا العربي، فللأسف ورغم كل الجهود المبذولة لإصلاح الأوضاع، إلّا أنَّ الكثير من الدول العربية ستتواصل فيها الأزمات المتلاحقة، نظرًا لحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، خاصة في الدول التي ما زالت تُعاني من تبعات "الربيع العربي" والتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السياسي والاقتصادي، فما زالت دول مثل تونس وليبيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن، تُعاني من ويلات ما مرت به من أزمات وصراعات وحروب. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على الحاجة الماسة لترسيخ مفهوم الدولة الوطنية القادرة على الحفاظ على مكتسباتها وترابها الوطني، يحيمها جيش وطني ومسؤولون وطنيون، ورغم أن هذه العملية تحتاج إلى سنوات مقبلة، إلّا أن الأمل في تحقيق ذلك ليس ببعيد، طالما توافرت الإرادة الوطنية الخالصة والمُخلصة للمقدسات الوطنية، وضمان الحفاظ على النسيج الاجتماعي والسلم المُجتمعي.
واستثناءً من الحالة العربية، وتحديدًا في دول الخليج العربية، والتي من المؤمل لها أن تقود قاطرة التنمية في الوطن العربي الكبير، بفضل المقومات الاستراتيجية التي تزخر بها، والرغبة الأكيدة لدى قادتها في إجراء تحوّل شامل في مفهوم الدولة، القائم على تعزيز مبدأ المواطنة ومواصلة الإصلاح السياسي والاقتصادي والارتقاء بمعيشة المواطن من خلال برامج دعم متنوعة ومتعددة، تضمن توفير العيش الكريم الآمن للفئات محدودة الدخل. وما يُعزز ذلك وجود إرادة وطنية قوية على المستوى السياسي والاقتصادي، لتقديم الصالح العام والمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار آخر، علاوة على التحلي برؤى استراتيجية تستشرف المستقبل على مدى العقد والعقدين المقبلين، مع التأكيد على عدم الانجرار نحو أية حروب والنأي بنفسها عن أية صراعات تستنزف الفوائض المالية أو تؤثر بأي درجة على مشاريع التنمية التي لا تتوقف، وهو ما يُرسخ نهج الحياد الذي تتبناه دول الخليج. وفي المقابل تواصل ضخ الاستثمارات في البُنى الأساسية وتفعيل خطط التنويع الاقتصادي. ولا شك أن ما يتحقق على أرض الواقع من نجاحات يعكس هذه الرؤى الحكيمة، فما أنجزته سلطنة عُمان في المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم من مشاريع متكاملة، تستهدف تحويلها إلى مركز عالمي لإنتاج وتصدير الطاقة والصناعات القائمة عليها، وما حققته دولة قطر الشقيقة من نجاح مُبهر في تنظيم كأس العالم، وخطط التنويع الاقتصادي المتقدمة في المملكة العربية السعودية، كل ذلك يؤكد بالدليل الدامغ على أن دول الخليج قادرة على الولوج إلى المستقبل المزدهر ارتكازًا على اقتصاد متنوع وقوي وهوية وطنية راسخة تتكئ على القيم الأصيلة والموروث الخالد.
وفي أقصى الشرق؛ تسعى الصين للتعامل مع أزمة صحية ممتدة، في ظل استمرار تفشي جائحة كورونا، خاصة بعد رفع كافة القيود التي ظلت تفرضها طيلة 3 سنوات، في مسعى منها لتطبيق سياسة "صفر كورونا"، لكها ستتمكن من تجاوز هذا التحدي الصحي الكبير في نهاية الربع الأول من العام الجديد، وهو ما يُبشّر بعودة النمو الاقتصادي الصيني الذي سيدعم الطلب العالمي على الخامات وخاصة النفط، ومن ثم انتعاش اقتصادي عالمي قادم من الشرق. وستعود الصين إلى مكانتها باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومصنع العالم، خاصة وأن بوصلتها السياسية واضحة ولن تقع في الفخاخ التي ينصبها لها أعداؤها.
وفي شق اقتصادي آخر، نترقب جميعًا أداء أسعار النفط خلال السنة الجديدة، لكن المؤكد أنها ستظل بين مدٍ وجزر، كونها سلعة استراتيجية حساسة، تتأثر بمختلف المتغيرات الاقتصادية والسياسية، ومن المتوقع أن تتأثر أسعار الخام الأسود بمؤشرات الاقتصاد الصيني ودرجة تعافيه من تبعات الجائحة، ومدى تجاوز الكساد في أوروبا، وكذلك نتائج الحرب الروسية. بيدَ أن الأسعار ستحافظ على معدلات 95 دولارًا للبرميل في المتوسط خلال 2023، بالتوازي مع استمرار زيادة أسعار الغاز، الأمر الذي يشجع الدول المُنتجة على توقيع عقود طويلة الأمد مع الدول المستهلكة، وهنا نشير بوضوح إلى أهمية مشروع خط الغاز الإيراني عبر سلطنة عُمان وتحديدًا عبر مسندم، وتعزيز قدراتنا التفاوضية في بيع وتصدير الغاز بأسعار جيدة تدعم خططنا الاقتصادية.
ورغم ما يمر بها العالم، فإنَّنا نتوقع استمرار عملية تشكل العالم الجديد، الذي لا مكان فيه لقوة عالمية أحادية، بل عالم متعدد القوى والأقطاب، وهي عملية قد تستغرق سنوات كي تتبلور بصورة كاملة. فالتقديرات تشير إلى أن التنازع بين الأقطاب العالمية على مستوى السياسة أو الاقتصاد سيمتد، فيما ستصعد قوى عالمية قادمة من الشرق، بينما يأفل نجم قوى غربية أخرى، آخذة في الاضمحلال الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، فنواميس الكون تقف في صفِ من يأخذ بأسباب التقدم والقوة، ليس من خلال فرض الهيمنة والنفوذ، ولكن عبر أدوات نشر المعرفة والمساعدة على الازدهار.
ويبقى القول.. في الساعات الأولى من إشراقة شمس 2023، أوجِّهُ هذه الدعوة الصادقة إلى الجميع، كي نتفاءل بالخير، ونظل نحافظ على مشاعر الأمل والرجاء، وأن تمسك بالطموح والتطلعات، وأن نكون مصدر سعادة وعطاء وخير لمن حولنا، وأن نسعى لإسعاد المحيطين بنا، وأن نمنحهم الحُب والمشاعر الدافئة التي تبعث الطمأنينة في القلب والنفس.. وأن نعمل من أجل وطننا عُمان بكل تفانٍ وإخلاص، كي يظل في ازدهارٍ وسؤددٍ ورخاء، فما أجمل العيش والنفس مُطمئِنة في وطنٍ معطاءٍ.